الكتابة المسرحية المغربية – العودة إلى الأصل
د. عبد الرحمن بن إبراهيم
شهد المركز الثقافي محمد المنوني بمكناس فعاليات الملتقي الأول للكتابة المسرحية. وهي تظاهرة فنة-معرفية ترقى إلى مستوى اعتبارها حدثا فريدا وانعطافة في مفهوم الممارسة المسرحية. وحين نعلم أن فكرة الملتقي انبثقت في ذهن فنان مسرحي اشتهر بكونه مخرجا مسرحيا، راكم خبرة معتبرة في ميدان تخصصه، مما بوأه مكانة على درجة من التميز في راهنية المشهد المسرحي. فإن ما يدعو إلى التساؤل: لماذا ملتقى الكتابة المسرحية؟ ولماذا هذا التوقيت بالضبط؟. وهل يتعلق الأمر بتحول معرفي، أو انقلاب في الرؤية الفنية لمفهوم الفعل
المسرحي؟.
نطرح هذه التساؤلات لاعتبارات كثيرة أهمها على الإطلاق أن المفهوم السائد للفعل المسرحي في عمومه انحرف- كما تشهد بذلك الوقائع- عن مساره الطبيعي الذي يتحدد في طبيعته المركبة ليتحول العرض المسرحي-نتيجة لذلك- إلى مجرد فرجة سائبة وتسلية عابرة ، تفتقر إلى اللمسات الجمالية والأبعاد الفكرية والدلالات الاجتماعية، التي تمثل جوهر العمل المسرحي. فالعرض كما هو معلوم ليس مجرد تقنيات خام، بل رسالة يتم إرسالها من خلال تقنيات سمعية-بصرية، تحقق المتعة الآنية، وتولد مشاعر الرضي والاستحسان، وتلبي حاجة النفس للاستمتاع الجمالي. وتحفز همة الناقد لسبر أغوار ورمزية المشاهد، وفك شفرات دلالاتها، وهي غايات لم يعد بمقدور العرض المسرحي السائد أن يبلغها إلا فيما ندر. فأين هو ذلك العرض المستفز والمثير والمفتوح على أكثر من قراءة، والمحرك لهمم النقاد؟.
إن الطبيعة المركبة للفعل المسرحي تتحدد في كون العرض ليس سوى عملية انصهار معرفي-جمالي لثلاث مكونات أساسية: النص الدرامي(نص المؤلف)، والرؤية الإخراجية(نص المخرج)، والعرض(نص الممثل). وبالتأكيد، فإن المنطلق هو النص الدرامي الذي يقوم مقام بطاقة هوية العرض، ومنه يستمد المخرج مقومات رؤيته الإخراجية، ومنه أيضا يرسم الممثل ملامح الشخصية المسرحية. بهذا المعنى فالنص الدرامي عبارة عن عالم جماعي تتداخل فيه مجموعة من العناصر ذات الأبعاد الاجتماعية والثقافية والتاريخية والنفسية بمستوياتها الشعورية واللاشعورية. وبناء على ذلك، فإن مهمة المخرج تتحدد في تفكيك هذه المكونات المتداخلة، وإعادة تركيبها بشكل يستجيب لضرورات العرض المسرحي كما يتصوره. «إن الإخراج ليس إعطاء الأوامر، والممثل ليس تلميذا في معهد أبحاث.. أي أن الإخراج علم ومهارة في إبداع (صناعة) فنية متقنة، مع التأكيد على العنصر الإبداعي الحاسم في هذه الصناعة البديعة».(1) ولا يجب أن يغيب عن الأذهان أن التقاليد المسرحية السائدة والراسخة في أي بلد من البلدان تقتضي الوفاء لها والعمل بها بشكل أو بآخر. كنوع من التأكيد على الخصوصية الفنية، وإبراز التميز للهوية المحلية. ونورد في هذا الصدد حالة المخرج الفرنسي الشهير "جان فيلار" «الذي ظل لسنوات عديدة مديرا للمسرح الوطني الشعبي الذي تشرف عليه الدولة الفرنسية. فعناصر الفرقة عليهم أن يقضوا ثلث الوقت المخصص للتدريبات، وهم ماسكون نسخة من النص في أيديهم بينما مؤخراتهم على الكراسي. وقد تعزى هذه التوصية إلى أن التراث المسرحي الفرنسي بشكل عام، يولي اهتماما للكلمة المنطوقة».(2) نسوق مثال المخرج الفرنسي على سبيل المثال لا الحصر فقط لنؤكد على أن النص الدرامي حاضر بقوة في كل مراحل الإعداد المسرحي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا كل هذا الاهتمام بالنص الدرامي:
للإجابة، نورد مقولة "قسطنطين ستانيسلافسكي: «إن الفعل هو القاعدة في فن التمثيل، وهو المادة الرئيسية لجوهر الشخصية المسرحية، والمحرض الرئيسي لانفعالاتها».(3) هذا التأكيد على فن الأداء التمثيلي لا يؤثر على المبدأ الثابت في قناعة ق. ستانيسلافسكي بخصوص النص الدرامي. فكثيرا ما كان يكرر ويردد «بأنه لا مسرح دون وجود مؤلفين عظام. وعلى هذا، فإن واجب المسرح الأول إنما هو تجاه المؤلف المسرحي. بالإضافة إلى هذا، فإن ما يناقض الفهم السيء "لممثل المنهج" واتهامه بمضايقة المؤلف المسرحي، هو أن وظيفة المسرح لإبراز فكرة المؤلف إبرازا عمليا تشكل أساس كل تعاليم ستانيسلافسكي. ولتحقيق هذا الهدف، يجب على الممثلين أن يخلقوا الشخصيات كما يفهمها المؤلف، ويجب أن يخلقوها بوعي».(4)وهو ما يفسر سر الإعجاب الشديد لستانسلافسكي بنصوص أنطوان تشيكوف، التي مصدر إلهام له في الكثير من أعماله المسرحية.
إن انصراف كبار المخرجين العالميين إلى العرض، والتركيز أكثر على مدرسة الممثل كحالة هذا الأخير-على سبيل المثال، لا يقلل إطلاقا من أهمية النص الدرامي، ومن مركزيته في الفعل المسرحي. وما نجح فيه ستانسلافسكي هو قدرته على تحويل النص الدارمي الأدبي- الملفوظ إلى نص سينوغرافي سمعي- بصري. وبناء عليه، فالنص الدرامي حاضر، لكن كتصور ورؤية معرفية – جمالية تأخذ بعدا بصريا من خلال أداء الممثل، وبعدا نفسيا من خلال الانفعالات الشعورية واللاشعورية التي تنبعث في اتجاه المشاهد لبلوغ المتعة الجمالية. وعلى هذا الأساس، فقيمة النص الدرامي ليست في ذاته، بل في نص الإخراج الذي يرتهن بمدى قدرات الممثل وبراعته في تبليغ رسالته؛ أي أن الفعل المسرحي أصبح مرتبطا بواقعه الاجتماعي وشرطه التاريخي وسياقه الثقافي. وهذه العملية لن تحقق سوى باستحضار النص الدرامي الأصيل الذي من المفترض إن يصب في اتجاه ينسجم مع خصوصية الرؤية الفنية للمخرج، ويستقيم وتجربته الإخراجية، ويؤصل بالنتيجة مفهومه للإخراج. وهنا تستحضر موهبة المخرج وملكته في انتقاء النص الدرامي المناسب، إذ لا يكفي أن يكون النص لكاتب شهير لكي نضمن نجاح الإخراج. فالاختيار المتسرع قد يكون سببا في عدم اسيتعاب المخرج لأبعاد النص، أو في عدم تمثله للشخصية المسرحية.
إن تاريخ المسرح الغربي، إنما هو في الأصل تاريخ النصوص الدرامية منذ الإغريق. ولا يجوز الحديث عن المسرح الفرنسي – مثلا- من دون الوقوف عند جان راسين وبيير كورنيي وفيكتور هوجو وموليير. وحتي حين نتحدث عن المسرح في أوربا، فإننا في الواقع نتحدث عن مسارح أوربية، مسرح ألماني، وسرح أسباني، ومسرح إيطالي، ومسرح بولوني... وخصوصية أي مسرح تتحدد انطلاقا من النص الدرامي .
فهل يجوز الإقرار بخصوصية فنية في المسرح المغربي مثلا؟. وهل يمتلك العرض المسرحي المغربي الراهن ما يثبت هذه الخصوصية؟.
إذا تعلق الأمر بمسرح الطيب الصديقي والمرحوم محمد الكغاط، وعبد الحق الزروالي-على سبيل المثال لا الحصر- فالخصوصية مؤكدة؛ لأنهم انطلقوا من نصوص درامية محلية. وكل واحد سعى في اتجاه ابتداع لغة سينوغرافية للعرض متناغمة مع النص. وفي ذلك ما يؤكد أصالة العرض. لقد برز اسم الطيب الصديقي كمخرج متميز حين استقى نصوصه واستلهمها من المقامات والإمتاع والمؤانسة ومن التراث المحلي في الكثير من مسرحياته.
لقد اعتبر بوسلهام الضعيف الملتقى بمثابة احتفاء بالكتابة المسرحية المغربية. وهو في الواقع نوع من إعادة الإعتبار للكاتب المسرحي المغربي. فأن تتلى نصوص من المرتجلة الجديدة للمرحوم محمد الكغاط، ومن "أبو حيان التوحيدي" للطيب الصديقي، وسيدنا قدر للكاتب محمد قاوتي، وكاترسيس لمحمد بهجاجي وغيرهم، فالأمر يتعلق برسالة إلى المخرجين المغاربة لكي يلتفتوا إلى النص المحلي. ففي ذلك ما يحقق أصالة العرض المسرحي المغربي، ويرتقي بالمسرحية المغربية إلى التألق والإشعاع.
1- هارولد كليرمان،حول الإخراج المسرحي، ترجمة ممدوح عدوان، مراجعة وتقديم علي كنعان، مطبعة دمشق للطباعة والصحافة والنشر-دمشق، ط1-1988،ط9.
2- نفسه،11.
3- طلال درجاني، المسرح الحديث والإعداد-كرسي الممثل..الانتباه وخط الفعل المتصل، مجلة كتابات معاصرة-54،المجلد14، أكتوبر- نونبر-2004،ص102.
4- عثمان الحمامصي، نظرية ستانيسلافسكي والنظريات المعارضة،الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة،1994،ص186.
العلم الثقافي - الخميس 3 من صفر 1436 الموافق 25 من دجنبر 2014