الأصول الدرامية في الأشكال الاحتفالية الشعبية العربية
"الكُرَّج" "الحكاية"
د. عبد الرحمن بن إبراهيم - المغرب
- جذور المسرح الحي في العصر الجاهلي: في العقد الأخير من القرن العشرين صدر كتاب على درجة من النزاهة العلمية والصرامة المنهجية لباحث عراقي من أصل يهودي يدعى "شموئيل موريه" Shmuel Moreh. ونجزم بأنه أهم بحث من حيث العمق المعرفي والحياد الموضوعي في أركيولوجية المسرح العربي لحد الآن في حدود علمنا. يتعلق الأمر بـ «المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط
Live Theatre And Dramatic Literature in the Medieval Arab world »[1]
وفيه فنَّد ادعاءات عديد المستشرقين التي تذهب إلى القول بأن المسرح عند العرب وقف عند حدود خيال الظل، وأنهم لم يعرفوا المسرح البشري.(*) وأثبت بالدليل القاطع أن العرب كان لهم مسرح حي، وأن المستشرقين لم يفهموا النصوص العربيـة في المسرح العربي. فقـد أشار في مقدمة كتابه بالقول:
<<في هذا الكتاب وَسَّعْتُ نطاق بحثي ليمتد إلى الإسلام خلال العصور الوسطى، وقد توصلتُ عبر هذا البحث، على خلاف ما ذهب إليه كُلٌّ من الباحثين العرب والمستشرقين الغربيين (**) إلى وجود مسرح حي في العالم العربي ما قبل الحديث. فقد واصل العرب تقاليد المسرح الشعبي في الشرق الأدنى وطوروها فيما قبل وبعد مسرحيات خيال الظل، والدمى المتحركة marionnettes، ومسرحيات الآلام المعروفة باسم التعازي.>>[2]
وبالنسبة إليه، فقد عرف المشرق العربي تقليدًا مسرحيًّا مرتين:
<<المرة الأولى عندما وصل المسرح الهلليني في أعقاب الفتوحات اليونانية والرومانية للشرق الأدنى عام 331 قبل الميلاد وما تلاه. إن ما تبقّى من خرائب المسارح الهللينية والرومانية في سوريا ولبنان وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا، وما بين النهرين لشاهد على الدور الذي لعبه المسرح في مجالي الدين والسياسة. أما المرة الثانية فكانت حين أثارت المسارح الأوربية ودُور الأوبرا، بدءًا من القرن التاسع عشر انتباه وإعجاب الباحثين العرب ممن حاولوا تقليدها أملا في تبنيها وسائلَ للإصلاح الثقافي والاجتماعي والأدبي، لعلها تنجح في إحداث نهضة في العالم العربي.>>[3]
بالنسبة للتقليد المسرحي في المرة الأولى، نشير إلى أن العرب في العصر الجاهلي لم يكونوا على ديانة واحدة، وإنما توزعهم ديانات وعقائد مختلفة. فمنهم من عبد الأصنام، ومنهم من اعتقد بالكواكب، طائفة تدينت بالمجوسية، وأخرى آمنت بالحنفية، ونفر آمنوا باليهودية، وغيرهم بالمسيحية، ودان غيرهم بغير ذلك. ولا شك أن شعائرهم الدينية كانت تُؤدّى في إطار طقوس تمثيلية في أماكن معدة لذلك. ومما لا شك فيه أيضا أن نشاطهم التمثيلي كان بسيطًا كانعكاس لحياة البداوة المتسمة بالبساطة، ولم يتجاوز طابع الصلوات والنذور والقرابين والتراتيل الجماعية؛ <<إذ لم يكن في عقائدهم من دليل عن تعقيد الطقوس كأن تكون هنا أساطير عن علاقة الآلهة فيما بينها وعن علاقتها بأهل الأرض، مما يمكن أن يحاكيه العرب في عباداتهم كالذي يفعله البابليون في عيد رأس السنة، أو الإغريق في أعياد ديونيزوس.>>[4]غير أنهم كانوا على دراية بالعروض المسرحية في عصر الإمبراطورية البيزنطية قبل الإسلام، وخير ما يثبت ذلك ما ورد في شعر حسان بن ثابت:
وأَبْلِغْ كلَّ منتخبٍ هـــــواه *** رَحيبِ الجوف من عبد المُـدان
ميامِسُ غَزَّةٍ ورِماحُ غابٍ *** خِفافٌ لا تقومُ بها اليــــــــــدانِ[5]
إن ورود لفظة "ميامس" تشير إلى وجود التمثيل، وهي ذات علاقة بمصطلح Mimus التي تعني "التمثيل الهزلي"، وتشير كذلك إلى "الممثلين الإيمائيين".
- ولكن هل يفهم من ذلك أن العرب الجاهليين قد امتلكوا معرفة التمثيل ومارسوا النشاط التمثيلي في شبه الجزيرة العربية؟
إن الطقوس الدينية الوثنية العربية مبعثها الاعتقاد بأن الأصنام لها القدرة على دفع البلاء واستجلاب المطر والخير، <<والذين اتخذوا من دونه أولياءَ. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى. إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه مختلفون.>>[6] وتشهد الوقائع في العصر الجاهلي ملاحم أسطورية حول الآلهة منها على سبيل المثال لا الحصر <<"حكاية ابن نيلوس الأكبر الذي اختطفه عرب سيناء ليقدموه ضحية للزهرة، النجم الثاقب، في طقوس استعدوا لها طول الليل." وهذه الحكايات والأساطير هي أعمال درامية بكل المقاييس الأدبية بما حوته من موضوعات تجري في كل زمان ومكان وما تتضمنه من حوار وما يستخرج منها من (ديكورات) وأضواء وهي لذلك لا تحتاج إلا إلى إخراج متمكن فاهِم وإعداد مسرحي يجعلها قابلة للعرض الدرامي.>>[7]
ولا يجب إغفال مواكبة المواسم الأدبية لموسم الحج، حيث كانت القبائل العربية تتوافد على مكة للحج والتجارة المسابقات الشعرية. كانت المواسم ثلاثة: سوق ذي المجاز ويستغرق ثلاثة أيام، وسوق مجنة ويستغرق أسبوعًا، وسوق عكاظ ويستغرق شهرًا. وكانت مباريات الشعراء تجلب جموع المشاهدين والسامعين من الحجاج والزوار والتجار وعشاق الأدب ورواته. وكان سوق عكاظ أهم الأسواق حيث كانت تُضرب للشاعر النابغة الذبياني قبةٌ حمراءُ ليفصل بين الشعراء المتبارين، فيحصل الحوار، وتتحقق الفرجة. ونسوق -لا حصرًا – المثال التالي: <<أنشد الأعشى ميمون بن قيس أبو بصير مطولته:
ما بكاء الكبير بالأطلال *** وسؤالي وما ترد سؤالي
ثم أنشده حسان بن ثابت الأنصاري قصيدته التي مطلعها:
ألم تسأل الرّبع الجديد التّكلّما *** بمدفع أشداخ فبرقة أظلما
والتي يقول فيها:
لنا الجفناتُ الغُرُّ يلمعن بالضحا *** وأسيافُنا يقطُرن من نجدة دمًا
ولدنا بني العنقاء وابني محرق*** فأكرم بنا خالا وأكرم بنا أبًــــا
فقال النابغة: أنت شاعر، ولكنك أقللت أجفانك وأسيافك. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن أنجبك
وأنشدته الخنساء قصيدتها في رثاء أخيها صخر:
قذى بعينك أم بالعين عوّار *** أم أقفرت مذ خلت من أهلها الدار
فقال لها النابغة: والله لولا أن سبقك أبو بصير أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والإنس.
فقال حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك. فقبض النابغة على يده ثم قال: يا ابن أخي، إنك لا تحسن أن تقول مثل قولي:
فإنك كالليل الذي هو مدركي*** وإن خلت إن المنتأى عنك واسع
ثم قال للخنساء: أنشديه. فأنشدته، فقال: والله ما رأيت أنثى أشعر منك. فقالت له الخنساء: والله ولا رجلا.>>[8]
- ألا يتعلق الأمر بفعل درامي توفر فيه مكونات العرض المسرحي.؟ فضاء مؤثث بقبة حمراء، ممثلون (أربعة شعراء)، حوار، حدث، وصراع، وجمهور واسع من المتفرجين المعجبين. !؟
- وإذا كان مفهوم الحبكة يتحدد في ترتيب الأجزاء التي تتكون منها المسرحية ترتيبا يكسبها شكلها العام، وأن التراجيديا تمثل جوهرها بالمفهوم الأرسطي؛ أليس ممكنا اعتبار حالة الخنساء تجسيدًا للشعور المأساوي الذي ارتقي بالحبكة في إطار سلسلة من الأحداث إلى ذروة التأزم.؟
- ألا يجوز الإقرار بنص مسرحي يتمثل في الأبيات الشعرية والحوار الذي جاء متلونا يناسب الشخصيات وانفعالاتها وتوتراتها.؟
إن انعقاد المواسم في مواعدها حجة قوية على نجاحه في استقطاب المشاهدين. وأخبار هذه المشاهد تُروى وتتناقلها ألسنة الناس بين القبائل، وترفع من شأن القبيلة التي يفوز شاعرها كما تُقلل من قيمة القبيلة التي يفشل شاعرها؛ وهو ما كان يحدث بالضبط في الاحتفالات المسرحية التي تقام في أعياد ديونيزوس عند الإغريق حيث تقدم جائزة لأفضل عمل مسرحي.
غير أن هذا النشاط التمثيلي لم ينفصل عن طقسه الديني من جهة، كما أنه لم يتخلص من حياة اللهو ليقترب من الممارسة المسرحية، وفي ذلك يغيب الصراع الذي هو جوهر الدراما بالمفهوم الإغريقي، سواءً أكان هذا الصراع بين الآلهة أنفسهم، أو بين الإنسان والآلهة، أو بين الأفراد أنفسهم، أم بين الفرد الواحد ونفسه. إنّ النظام الاجتماعي القبلي في البيئة العربية لا يسمح باستقلالية الفرد الواحد عن القبيلة، وإلا اعْتُبِرَ منبوذًا لا اعتبار له حتى لو امتلك كل أسباب السطوة والقوة والجبروت؛ ممّا يُفهم منه أن الصراع الفردي لا قيمة له في الحياة الجماعية القبلية. وأنه في المنطق القبلي يجب أن يكون جماعيا (قبيلة ضد أخرى). وهو ما تحقق للشعراء الذين أبانوا عن مواهب في النظم، وتربعوا على زعامة قبائلهم في الحروب والأيام:
وأيّامٍ لنا غُرٍّ طِـــــــــــــوالٍ *** عصينا المِلْكَ فيه أن ندينــــــا
وسيد معشر قد توجهــــــوه *** بتاج المُلْكِ يحمي المُحْجَرينـا[9]
لمّا رأيتُ القَوْمَ أقبل جَمْعهُم *** يتذامرون كررتُ غيرَ مُذَمّـمِ
يدعون عنتر والرّماح كأنها *** أشطان بئر في لبان الأدهـــم
ما زلتُ أرميهم بثغرة نحره *** ولبانه حتّى تسربل بالـــــــدّمِ[10]
بخصوص الصراع الدرامي إلى جانب الحركة والحوار، تجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الحوار في الشعر الجاهلي ابتدأت أول مرة في شعر امرئ القيس لتنتشر فيما بعد كأهم الظواهر الفنية الأسلوبية. وهو ما كان عاملا مساعدا في بروز الأسلوب القصصي في الشعر العربي الجاهلي عموما، وشعر امرئ القيس على الخصوص. وكمثال على ذلك، نورد المقطع التالي:
<< لمن الديار عفوت بالحبس *** درست وتحسب عهدها أمس
وقضيتُ قيمتها فتكرهـــه *** فتقول هل بك صاح من مسّ
فأقول مسّ إنّ مثلــــك لا *** يثني على الزمالة النكــــــس
فتقول ليس كما تقول ولم *** يولد بليلة كوكب النحــــــــس
فأقول نحس إنه رجــــل *** من عصبة كأكولة الــــــرأس
فتقول قوّاد الجياد إلــــى *** أرض العدو وبلدة البــــــأس
فأقول بل سوّاق أفضلــة *** ترعيّة لصعائد تعــــــــــــس
فتقول بل سواق سلهبــة*** جرداء مثل خميصة البـــرس
فتقول بل حمّال ذي أثـر *** في صفحة كمجرة الحـــلـــس
فأقول بل حمّال أو فضة *** فيها أقيدحُ مرخة الجلــــــــس
فتقول بل ولّاج أخبيــــة *** وعلى العذارى زن بالـــورس
فأقول بل ولاج أخبيــــة *** وعلى الإماء موضع الكـــرس
فتقول بل ملأ الجفان إلى *** أصبارهن وصبية غبـــــــــس
فأقول تأتيك الفصال ولا *** تأتيك إلا ليلة الخمــــــــــــــس
فتقول إن الحي أنكحنـــي *** منهم رفيع الرأي والحــــــدس
أقول إن الحي أعجبهــــم *** دهم تساق كجدّة الغـــــــــرس
فتقول إنك قد صدقت فمـا *** يلفى لنا مثلان في الأنــــــــس
فأقول أنتِ من النساء ولا *** يقبلن إلّا خطة الوكــــــــــــس[11]
في هذا النص الشعري/المسرحي تتوافر فيه الوحدة العضوية، وتحضر كل المكونات الدرامية: الحدث الأول، يطرح إشكالية مفهوم الزمن في العمل الإبداعي؛ حيث تتداخل الأزمنة إلى حد التشابك. الزمنان الحاضر الماضي الأفقيان يتحوّلان إلى زمن نفسي عمودي؛ جعلت الواقف على الديار البالية يرى نفسه حالمًا كَمَنْ أصيب بمسٍّ (البيتان1-2). الحدث الوسط عبارة عن حوار درامي تصاعدي مفتوح بين امرئ القيس وصاحبته التي تبدو شخصية حاضرة على المستوى النفسي. فالشاعر في حالة صراع ذاتي وفي وضعية درامية مأساوية تصادمية (الأبيات 3ـ 16). الحدث الأخير يعكس حالة تصالح مع الذات (البيتان 17-18).
إننا بصدد نص درامي بحبكة ذات بناء محكم تتطور من البسيط إلى المركب لتنتهي إلى الوفاق على أساس من الحتمية.
- الفرجة الشعبية بوصفها شكلًا للمسرح الحي في العصر الإسلامي: يقر الباحث <<بأن العالم الإسلامي عرف تقليدا مسرحيا راسخا للمسرح الحي، وإن كان ذلك على مستوى شعبي فحسب. فقد كان المسرح الشعبي في العالم الإسلامي بمثابة استمرار للمسرح الهزلي الذي ترعرع في الشرق الأدنى ما قبل ظهور الإسلام.>>[12] وهو ما يتوافق والرأي القائل بأن العرب كانوا على عِلم بالتقاليد الدرامية عند اليونان والرومان والفرس، وأن هذه الطقوس الاحتفالية الوثنية كانت معروفة في البيئة العربية، وأنها ظلت حاضرة بعد ظهور الإسلام بعد أن فقدت خصوصيتها الوثنية بحكم العقيدة الجديدة. وسرعان ما برزت العصبيات القبلية في العصر الأموي، كما أن مظاهر الترف في المدينة والكوفة ساعدت على ظهور طبقة مترفة تهتم طائفة منها بحياة اللهو ومجالسه من غناء ورقص ونحوهما. في ظل مثل هذه الأجواء ازدهرت احتفالات شعبية تستوحي موضوعاتها من الطقوس الاحتفالية العربية الأصيلة، <<وحل المُحاكون والمُهرجون والمُساخرون محلّ المسرح الكلاسيكي في أقاليم الشرق الأدنى من الإمبراطورية الرومانية.>>[13]
أ- الْكُرَّج: يتفق مصنفو المعاجم العربية بالإجماع على أن مصطلح "الكرج" لفظة فارسية تعني المُهر أو الحصان الخشبي يُلعب عليه. <<ومصطلح الكرّج لعبة كانت تُؤدى في كل عيد في أحياءَ شتى من مكة منذ الجاهلية حتّى عام 252 بعد الهجرة الموافق لعام 866 بعد الميلاد.>>[14]غير أن المعنى الذي ورد به في المصادر العربية[15] لا يدل على أن الغرض من استخدامه كان جليّا، ويرجع السبب في هذا إلى <<عدم وجود وصف للمسرحيات أو الدراما التي أدّاها الممثّلون، وعدم محاولة الإشارة إلى الغرض من المسرحية أو مغزاها.>>[16]
وبخصوص لاعبي الكرج، فقد كان يُطلق عليهم "المخنّثون": <<فقد نشط هؤلاء في المدينة على عهد النبي، وثمة إشارة إليهم في عهد خلافة عمر بن الخطاب، حيث شاع أنه قال إنه لولا أنه شاهد لَعِبًا مماثلا في عهد النبي نفسه لطردهم من المدينة>>[17]
وعلى يد شاعرَيْن من شعراء النقائض الأخطل جرير والفرزدق، تأصلت تقنية "الكرج" في العصر الأموي. وفي نقائضهم الشعرية اتضح بشكل جلي أن المقصود بالمخنثين هم النساء أو أشباه النساء من الرجال الذين يمتطون صهوة الأفرسة الخشبية، ويحاكون بها الفرسان الذين يفرون ويكرون في المعارك. فقد ورد في قصيدة لجرير بيت شعري يشير إلى الكرج وراكبه:
أمسى الفرزدق في جلاجِلِ كُرَّجٍ *** بَعْدَ الأُخَيْطَلِ زَوْجَةً لِجَريرِ[18]
ويتعلق الأمر بمواجهة بين الشاعرين الأمويين. فقد سخر جرير من الفرزدق الذي تزيّا بالديباج وارتدى سورًا، بينما لبس هو درعًا وتقلد سيفًا وأخذ رمحًا واستعار فرسًا أصيلًا. فبدا الفرزدق في الكرج كأنه أنثى تنتظر عودة فارسها مظفرًا من معركة
<<لبستُ أداتي والفرزدق لُعبةُ *** عليه وشاحَا كُرَّجٍ وجلاجلُـــه
أعدوا مع الحَلْيِ الْمَـلَابَ فإنمـا *** جريرٌ لكم بَعْلٌ وأنتم حلائلَــــه
وأَعْطوا كما أَعْطَتْ عَوانَ حَليلَها *** أقرَّت لبعلٍ بعد بعل تُراسلـه.>>[19]
فجرير يقدم نفسه كمقاتل يستعد للنزال بلباس الحرب، يمتطي صهوة فرسه (لبستُ أداتي) وزوجاته (حلائله) يتلقينه بزينتهن، ويقدم خصمه الفرزدق راكبًا مُهْرًا خشبيًّا (والفرزدق لَعْبَة)، أي مسخرة. إن الأمر إذن يتعلق بـ "أداء مسرحي" عبارة عن تمثيلية تتضمن "حكاية" من نسج الخيال تتأسس على صراع درامي. وهو ما يفيد أن العرب منذ العصر الجاهلي كان لهم مسرح بشري، ممثلوه هو المخنثون الذين يتفننون في الأداء الذي يراد به ما يُصطلح عليه بـ "الحكاية". وقد عرّفها ابن منظور بقوله: <<الحكاية كقولك: حكيت فلانا وحاكيته، فعلت مثل فعله، وقلت مثل قوله سواء لم أجاوزه، وحكيت عنه الحديث حكاية.>>[20] إن فهم علاقة الكرج (الشخصية المسرحية) بالحكاية (المحاكاة) التي يراد به محاكاة وتقليد النساء وأشباههن لحركات الفرسان المحاربين، فيرقصن ويلعبن على الكرج الخشبي. وهو ما يتفق مع القول إنّ<<الكرّج هو الذي يلعب به المخنثون في حكاياتهم.>>[21]
بـ - الحكاية: إن مدلول مصطلح "الحكاية" يراد به بالمعنى الشائع اليوم "التمثيل"، يعني أداء مشهد يتم فيه تقمص شخصية مسرحية. <<ويُعَرِّفُ مصنِّفو المعاجم العربية لفظة "حكاية" على أنها تعني "محاكاة" imitation أو تشخيص impersonation أو "تقليد ساخر" aping، وتعني كذلك "قصة" story/tale. إن المعنى الأصلي للفظة "حكاية" هو "المحاكاة" imitation. وكانت لفظة "حكاية" تُستخدم في بواكير الأدب العربي أحيانًا بمعنى أداء محاكاة ساخرة لحادثة واقعية أو متخيلة. ويبدو أن لفظة "حاك" imitator كانت معروفة في عصر النبي محمد، حيث كان "الحَكَمُ بْنُ أبي العاص" يُسمّى بـ "الحاكي" لأنه كان يحاكي مشية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.">>[22] ويتأكد هذا المدلول في البيتين الشعريين التاليين: حَصَلْتَ على حكايةَ مَنْ يُغنّي *** فحاكِ لنا العجوزَ إذا تَغَنَّـتْ
وحاكِ لنا لبيبًا إذا أتاهــــــــــا *** فأعْطاها القُمُدَّ كما تَمَنَّـــتْ[23]
إن الأمر يتعلق بـ "محاكين" محترفين، يمتهنون فَنَّ الحكاية، يؤدون عروضًا في الأسواق وفي الميادين العامة، وثمّة روايات تشير إلى أشخاص من عوام الناس يحاكي بعضهم بعضًا. ويقوم مفهوم المحاكاة هنا على السخرية اللاذعة التي يراد منها بلوغ غايتين اثنتين: إهانة الشخص موضع المحاكاة، وإثارة إعجاب المشاهدين. وبهذا الفعل فَهُمْ ممثلون مسرحيون. <<وقد استعمل الرعيل الأول من المترجمين لفظة "حكاية" عند ترجمة المصطلحات الدرامية اليونانية: إذ ترجم "أبو بِشرٍ متّى بنُ يونس القُنّائيّ، مترجم "أرسطو" Aristote "فنّ الشّعر" Poetics، كلمة mimesis اليونانية على أنها "التّشبيه والمحاكاة" أو"التّشبيه والحكاية".>>[24]
وسيشهد مصطلح "حكاية" تحوّلا في العصر الإسلامي حيث صار "الكرّج" شخصية مسرحية من شخصيات الحكاية. ولعل ما يؤكد هذا التحول ما <<رواه ابن أبي عون الكاتب المتوفى سنة 322هـ، إذ قال: "أنشد جرير شعرًا، فقال له مخنث: ويل لي يا يابا، فقالوا له: اُسكتْ ويلك هذا جرير. قال: وأي شيء يقدر يعمل لي؟ إن هجاني أخرجتُ أمَّه في الحكاية.">>[25] إن الحكاية هنا يراد بها عرض مشهد يقوم على التمثيل/المحاكاة. والذي يقوم بالتشخيص هو "المخنث". والمعلوم أن المخنثين هم الذين اشتهروا بالتمثيل وتقمص الشخصيات المسرحية. وواضح أيضًا أن محاكاة أم جرير تقوم مقام الهجاء، وتقديم الشخصية المسرحية في قالب هزلي ساخر أمام مشاهدين متحفزين للاستمتاع والتسلية.
(*) نشير في هذا الصدد إلى ثلاثة من المستشرقين الغربيين: 1) "الألماني جوستاف فون جرينباوم الذي زعم أن الإسلام السني لم ينجح في خلق فن مسرحي رغم معرفته بالثقافتين اليونانية والهندية، وهذا لا يعود إلى سبب تاريخي بقدر ما يعود إلى مفهوم الإنسان في الإسلام، وهو مفهوم يمنع وقوع أي صراع درامي. 2) الألماني هنريش بيكر يقول بأن التراث اليوناني أدى إلى أيجاد النزعة الإنسانية في أوربا مما أدى بدوره إلى عصر النهضة الأوربية، بينما لم يؤد الإسلام إلى نفس هذه النزعة، وترتب على هذا اختلاف في المضمون الفعلي في كل منهما. 3) المستشرق الفرنسي جاك بيرك يرجع عدم وجود فن المسرح في التراث العربي إلى أن التقليد العربية تعاني بالنسبة للمسرح من مشكلتين متكاملتين، ولذلك جهلت التعبير المسرحي لأنها لم توفق إلى إعطائه اللغة المناسبة، وأولى هاتين المشكلتين هي عدم تناسب اللغة العربية القديمة مع المتطلبات الداخلية للغة الدرامية. والمشكلة الثانية هي صعوبة اختيار واحدة من اللغات العربية الثلاث، وهي الإشارة والتعبير والدلالة. ولغة الشعر العربي تختلف دائما عن لغة الحياة اليومية. إنها لغة كلاسيكية تشبه بستانا جميلا ولكنه بستان متجمد، والمسرح بتكوينه هو اللغة التي لا تحتمل القوالب الجامدة.
(**) من بين الكتاب العرب الذين أكدوا أن العرب لم يعرفوا المسرح قبل القرن التاسع عشر:
محمد عبد الرحيم عنبر: المسرحية بين النظرية والتطبيق، القاهرة-1966. محمد عزيزة: الإسلام والمسرح، القاهرة-1971. عمر الدسوقي: المسرحية، نشأتها وأصولها، القاهرة-1957. توفيق الحكيم: الملك أوديب-1944. توفيق الحكيم، قالبنا المسرحي-1949. محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، القاهرة-1962. إدوارد حنين: شوقي والمسرح، مجلة المشرق، عدد32-1934. طه حسين: في الأدب الجاهلي، القاهرة- 1927 وحديث الأربعاء، القاهرة-1937. محمد مندور: المسرح، القاهرة-1963. محمد مندور: الأدب وفنونه، القاهرة-1963. ومسرحيات شوقي، القاهرة-1955. والثقافة وأجهزتها، القاهرة-1962. أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي، القاهرة-1946. مصطفى الشكعة: من فنون الأدب العربي، القاهرة-1957. عبد الله شقرون: قصة المسرح الأول، مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء-2002.
أما الذين خالفوا هذه الرؤية، فمن بينهم: محمد كمال الدين: العرب والمسرح، القاهرة-1975. محمد حسين الأعرجي: فن التمثيل عند العرب، بغداد-1978. علي عقلة عرسان: الظواهر المسرحية عند العرب، دمشق-1985 (ط-3). عمر محمد الطالب: ملامح المسرحية العربية الإسلامية، المغرب-1987.
[1] - شموئيل موريه، المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط. ترجمة عمرو زكريا عبد الله، منشورات الجمل- بغداد، ط1-2014، Shmuel Moreh: Live theatre and dramatic literature in the medieval Arab world, Edinburgh University Press-1992
[2] - مقدمة المؤلف، ص13
[3] - نفسه، ص21
[4] - د. محمد حسين الأعرجي، فن التمثيل عند العرب، سلسلة الموسوعة الصغيرة، رقم 28 - 1978، منشورات وزارة الثقافة والفنون – الجمهورية العراقية، ص9، 10
[5] - نفسه نقلًا عن دوان حسان بن ثابت، ص257، ص16
[6] - سورة الزمر، الآية3
[7] - الدكتور عمر محمد الطالب، ملامح المسرحية العربية الإسلامية، منشورات دار الآفاق الجديدة – المغرب، ط1 – 1408هـ، 1987م، ص58
[8] - نفسه، ص59
[9] - أبو عبد الله الحسين الزوزني، شرح المعلقات السبع، دار اليقين للنشر والتوزيع – المنصورة، مصر- من معلقة عمرو بن كلثوم، ط1 – 2012، ص219
[10] - نفسه، من معلقة عنترة بن شداد، ص259، 260
[11] - عمر محمد الطالب، ملامح المسرحية العربية الإسلامية، مرجع مذكور، ص62
[12] - شموئيل موريه، المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط، مرجع مذكور، ص22
[13] - نفسه، ص55
[14] - نفسه، ص69
[15] - أخبار مكة للفاكهي، ومروج الذهب للمسعودي
[16] - شموئيل موريه، المسرح الحي والأجب الدرامي في العالم العربي الوسيط، مرجع مذكور، ص67، 68
[17] - نفسه، ص69
[18] - نفسه، ص71
[19] - نفسه، ص70
[20] - ابن منظور، لسان العرب، المكتبة الشعبية – القاهرة، حرف الحاء – حكى، الجزء4، ص191
[21] - محمد حسين الأعرجي، فن التمثيل عند العرب، مرجع مذكور، ص23
[22] - شموئيل موريه، المسرح الحي والأدب العربي في العالم العربي الوسيط، مرجع مذكور، ص167
[23] - نفسه، ص169
[24] - نفسه، 170
[25] - محمد حسين الأعرجي، فن التمثيل عند العرب، مرجع مذكور، ص25