قراءة في مسرحية
"وَجَعُ الْحَياة"
مَسْرَحٌ ساكِنٌ يُمارِسُ الاِسْتِغْراقَ الذِّهْني
في رَصْدِ الأَفْكارِ وَفَهْمِ الرُّموز
تأليف عبــد العــزيز الطيبـــــــي
1- المسرح الطليعي الدلالة والمفهوم
كانت الإرهاصات الأولى في مطلع الستينيات من القرن الماضي مع ما يصطلح عليه بـ "المسرح الطليعي" الذي يندرج في إطاره عديد المذاهب المسرحية كالرمزية والتعبيرية والعبثية والوجودية. وعلى الرغم ممّا يميز هذا المذهب عن ذاك؛ إلا أن قاسمهم المشترك هو التشكيك في قيم الحداثة وأعرافها، وكشف زيف مرجعيتها الفلسفية وخلفيتها الأيديولوجية التي انتهت بالمجتمعات الأوربية إلى انسداد أفقها المعرفي، وانهيار مثلها العليا. وهو ما انتهى – بالنتيجة – إلى الباب المسدود الذي أشعل حربين كونيتين مدمرتين آذنتا بسقوط المشروع الحداثي. وكانت الضحية الأولى هي الإنسان الأوربي، فقد وجد نفسه في دوامة حربين لم تبقيا ولم تذرا معنًى لآدميته التي عُبِثَ بها. وكان للفلسفتين الوجودية والعبثية النصيب الأوفر في تزعُّم حملة التشكيك في القيم الفلسفية المتوارثة منذ أفلاطون مرورًا بهيجل بخصوص "ماهية الإنسان". وأعيد طرح السؤال الفلسفي المتعلق بالوجود والماهية، أيهما أسبق. بالنسبة للفلسفة الوجودية، فالوجود هو الأصل والأسبق. فالإنسان حين يولد فهو من يختار ماهيته، كأن يكون خَيِّرًا أو شرّيرًا، نبيلًا أو دنيئًا، رفيعًا أو وضيعًا. وهو المسؤول عن ماهيته التي ارتضاها لنفسه، وله الحق أن يغيرها أو يعدلها وفق ما يرتئيه. وهنا يتمثل البعد الإنساني في الفلسفة الوجودية التي تتأسس على مبدأ حرية الإنسان.
لقد كان مبدأ المسرح الطبيعي يقوم على تعرية الواقع، ومحو كل ما يعتريه من لبس وغموض وتشويه من جهة، وتصوير الفرد الواحد انطلاقًا من دوافعه الشريرة الغامضة من جهة ثانية. إن تركيز المسرح الطبيعي على أمراض البشرية وتشخيصها، وإبراز ما اعوج فيها يعكس خلفيته المعرفية التي تتأسس على مبدأ المراجعة الجذرية لعديد التصورات والمفاهيم السائدة، انسجامًا مع تأثير تيار الحداثة التي عصفت بكل ما بات في حكم الثابت والمطلق. وهو ما آذن بدخول الممارسة المسرحية الحداثية في حوار مع الذات ترتب عليه نسق ثقافي منطلقه الأول اعتبار الإنسان هو المركز. وقد عكس النص المسرحي الطبيعي هذا التحول على مستوى تقنيات الكتابة من حيث العناصر الدوامية. وكان أبرز تحول هو ما تمثل في المنطلقات. فبدل الانطلاق من الفعل الذي يتمثل في الحدث/الأحداث في ارتباطها بالشخصية/الشخصيات في إطار حبكة فاقدة للفعالية المسرحية؛ تحرر النص من هذه القواعد المتجاوزة معرفيا وجماليا باتخاذها الحالة اللاشعورية، تأملات فلسفية، مشاعر نفسية، عوالم حالمة، ثنائيات كجدلية الموت/الحياة، الوجود/العدم، النعيم/الجحيم كتيمات بديلة... وعوض إضفاء طابع البطولة الخارقة، وإسباغ علامات السمو والارتقاء على شخصيات ذوات إرادة جامحة؛ أمست في المسرح الطبيعي عادية بانتماءات اجتماعية دنيا، وقد يصل بها الأمر إلى حالة التشرد والضياع والتهميش والعجز التي تنتهي بالشخصية المسرحية إلى الانكفاء على الذات بفعل المعاناة التي تقتضي - من الوجهة الفنية - تقنية المونولوج والبوح الذاتي بمعزل عن المؤثرات الخارجية. وهنا يكمن الفرق بين الواقعية والطبيعية. فالأولى تصور الواقع في تفاعله مع التحولات والتغييرات الممكن حدوثها في الزمان والمكان؛ بينما الثانية تتناول الوقائع لا باعتبارها قابلة للتغيير، سواء تعلق الأمر بثورة على الأوضاع القائمة، أو بانتكاسة أو نكوص إلى الوراء، أو الانحدار إلى القدرية والغيبية. وهي ذات الرؤية الفنية التي تتقاسمها المدارس المسرحية كالعبثية والتعبيرية والرمزية والوجودية.
- لا مرجعية النص الما بعد حداثي
<<إن مصطلح ما بعد الحداثة هو دعوة للالتقاء (وخصوصا في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية) على عنوان مناسب لتوصيف أسلوب تمثيلي ومسلك في الإنتاج والتلقي، ونهج معاصر للعمل المسرحي بشكل عام، منذ السنوات الثلاثينات، بعد مسرح العبث والمسرح الوجودي مع بروز أشكال البرفومانس Performance والهابيننغ Happening والرقص الذي أطلقت عليه صفة ما بعد الحداثة. إن فلسفة ما بعد الحداثة يقيت غريبة عن المبدعين المسرحيين، أو مفهومة بشكل سيء بحيث كانت تستعمل عند الحاجة. علينا أن نكتفي إذن بتعداد بعض الملامح الشديدة العمومية من دون أن يكون لها قيمة نظرية كبرى، كالتي نربطها عموما بمفهوم الإخراج لما بعد الحداثة.>>1
وكان لابد لـ "مسرح ما بعد الحداثة" الذي قاد ثورة على القيم المتوارثة والثوابت المكرسة أن يسير في اتجاه <<تدمير المركز والمرجعيات. فقد دعا إلى كتابة نص لا مرجعية له، وهو اتجاه في جوهره تدميري دادائي لا يطرح بديلًا، يسير في اتجاه تدمير كل ما هو سائد ومتعارف من مقولات ومفاهيم وأنماط، وإحلال الفوضى والعدمية في الوجود الإنساني.>>2
زمنيًّا، كان عقد الستينيات مدخلًا إلى محاكمة المفاهيم الكبرى التي تجاوزتها مجريات التحولات الاجتماعية المتلاحقة، ومساءلة المقولات والأنماط التي باتت مطلقة. وازداد الأمر حدة فيما بعد الحرب المدمرة في منتصف القرن العشرين. إن الدمار الشامل الذي لحق بأوربا يعكس السقوط المدوي للمنظومة الفكرية والاجتماعية الغربية التي استنفدت رصيدها التنويري، لِتَبْرُزَ الولايات المتحدة متزعمة تيار ما بعد الحداثة كقوة عظمى في مقابل دول أوربية منهارة.
ورغم أن الحداثة وما بعد الحداثة يشتركان في اعتمادهما منطق التجاوز، إلا أن ما يسم فلسفة ما بعد الحداثة أنها تتبنى منطق "تجاوز التجاوز". أي أن <<دلالة مصطلح "ما بعد الحداثة" يعني "تجاوز الحداثة" كعملية "تجاوز" مستمر للماضي.>>3 إن الأمر يتعلق بنسق فكري وثقافي يندرج في إطار مشروع معرفي جمالي يتأسس على إعادة النظر في كل ما بات سائدًا، والدخول في اختلاف مع الذات ومع الآخر. إنها رؤية تتأسس مرجعية معرفية تتمثل في محددين اثنين:
محدد أول: يتمثل في نقل حياة عموم الناس وما تزخر به إلى خشبة المسرح كمرآة يرى المتفرجون الحقيقة التي هي حقيقتهم كما هي، بقبحها وشذوذها وموبقاتها ولؤمها ودنسها وتهافتها. وإلى أبعد من ذلك، لم تكن الغاية تتحدد في مجرد نقل صورة طبيعية عن حياة بويهيمية لشريحة معينة من المجتمع وحسب؛ بل فعل ذلك انطلاقا من القناعة بضرورة تعرية النفس البشرية وتصويرها على حقيقتها وهي غارقة في الرذيلة، ومجردة من أقنعة الرياء الاجتماعي، وكاشفة زيف مظاهر التمدن القائمة على النفاق والأنانية وازدواجية المواقف التي كرستها الحضارة وتوسلت به الإنسانية في أطوار ضعفها لتجعله سلاحا للضعفاء يقيهم شر الأقوياء.
محدد ثان: التأسيس لمسرح جديد متحرر ومنفتح على كل التجارب والثقافات، والبحث عن آفاق بكر غير مأهولة. وهو ما فتح الباب على مصراعيه لمغامرة ما بعد التجريب. ونسوق هنا على سبيل المثال لا الحصر، حالة الكاتب المسرحي الطبيعي هنري بيكّ H. Beeque، فقد كان ذا رؤية متشائمة، لا مبالياً بالهدف الإصلاحي، اكتفى بتصوير المجتمع كما هو بحثالته ومغفّليه وشرّيريه بأسلوب لاذع وقاس
3- مقومات النص والعرض في مسرح ما بعد الحداثة
أ- التنكر للمرجعيات المتوارثة عبر الأجيال على مستوى الكتابة الدرامية والمسرحية، بحيث يستحيل إدراج نص مسرحي أو نصوص مسرحية لجماعة من الكتاب في خانة مذهب أو تصنيف أو تحديد معين؛ إذ كل نص يحيل على نفسه. فالتشكيك في شرعية النص المسرحي الحداثي يطال كذلك النص الما حداثي. وأولى تمظهرات هذه السمة تتبدّى على مستوى اللغة، فقد لحق اللغة الأنيقة، والتعابير المنتقاة بعناية فائقة تفتيتٌ لأوصالها. إن <<التدمير الذي شهده النص المسرحي على يد كتاب الطليعة انطلاقًا من أن اللغة الأنيقة لم تعد ملائمة للتعبير عن التدمير الذي لحق بالنفس الإنسانية وبالعلاقات الاجتماعية.. هذا التدمير في اتجاهات ما بعد التجريب تعدى مفردات النص إلى مفردات العرض المسرحي.>>4
بـ - البحث عن فضاءات على درجة من الغرابة، من غير الممكن تجسيدها ركحيا في فضاء العلبة المشيدة الموروثة عن مسرح الحداثة وما قبل الحداثة، بوصفه صنيعًا مصطنعًا. وقد أشار المسرحي البولندي "تادووش كانتور" الرسام والمخرج والسينوغراف والممثل والمنظر في الفنون التشكيلية والمسرحية بقوله: <<إنني أشعر بالخجل وأنا جالس على مقعد مريح في الصالة.>>5
جـ - بخصوص التيمات، فقد تبنى مسرح ما بعد الحداثة الرؤية الفنية للطليعة الجديدة التي يمثلها "تادووش كانتور" البولندي مبدع "مسرح الهابينغ" Happening ما بعد التجريبي. وهو توجه غير قابل للتحديد في إطار قالب معين، لأن النصوص المسرحية تتسم بصفة الشمولية والإحاطة، وتجمع ما بين السريالية والعبثية والدادية والوجودية... التي تتجاوز التأطير في خانة فنية.
د- الرفض المطلق لكل النظريات المسرحية على اعتبار أنها صيغت وفق ما يقتضيه فضاء البناية المسرحية التي دجّنت الفعل المسرحي، وأفقدته أصالته المتمثلة في ارتباطه بالحياة على حقيقتها. وبناءً عليه، يتوجب نبذ كل التقنيات والمصطلحات المرتبطة بهذا الفضاء المصطنع كالخلفيات والديكور وقطع الأثاث والملابس والسينوغرافيا.
هـ- إلغاء المسافة الفاصلة بين الفضاءين الركحي والدرامي التي تجعل المشاهد على وعي تام بأن ما يعاينه مجرد تمثيل، ويحتفظ – جراء ذلك - بمسافة ذهنية تبقيه في وضعية المتفرج المحايد، بينما المطلوب هو إشراكه في الفعل المسرحي، وإسهامه في صناعة الحدث باعتباره طرفًا مباشرًا في العرض.
و- إفراغ اللغة الكلامية من محتواها التواصلي ووظيفتها السردية الحوارية، لأنها تفقد العرض المسرحي بريقه البصري على أساس أن حقيقة المسرح تتحدد في كونه مجال المتعة البصرية Le plaisir de voir. وبما أن مسرح ما بعد التجريب تجريدي، فإنه يرفض النص لأنه يحيل على ما هو حسي في الزمان والمكان، ويستعيض بالعرض الذي تتحول فيه الملفوظات إلى وسيلة لفك شيفراته، واستيعاب أنساقه البصرية والسمعية.
- انفصال الدال والمدلول في النص المسرحي "وجع الحياة"
يتألف النص من ثلاث مشاهد، على درجة من التماهي إلى الدرجة التي تسمح باعتبارها مشهدًا واحدًا، مما يوحي بأن الأمر يتعلق بتيمة يتيمة تتلخص في فكرة الموت. الحدث في المشهد الأول يصنعه شخصان شهيد وشهلول يجريان بدون اتجاه في اتجاه غير معلوم. متوتران، قلقان، في حيرة من أمرهما، هائمان على وجهيهما، لا يدركان ما يريدان:
<<شهلول: نوض جري.
شهيد: علامن.؟
شهلول: عليا.
شهيد: علاش.؟
شهلول: حيت باغي نهرب
شهيد: فين.
شهلول: حتى لبلاصا.>>6
الحدث الرئيس في المشهد الأول يتعلق برغبة مشتركة لشهيد وشهلول في الهروب من حادث موت غير مؤكد لشخصية مجهولة الهوية؛ غير أن الحوار الجاري على لسانهما يدل أن الأمر لا يتعلق بالخوف من تهمة جريمة قتل، ولا من محاولة القبض عليهما، وإنما مجرد رغبة ملحة في البحث عن إجابة شافية عما هو الموت، ومن هو الميت:
<<شهلول: عارف أنت شنو هو الموت،؟
شهيد: أنا غير حفار القبور.>>7
وفيما يشبه تبادل الأدوار بينها، ينبري شهيد إلى طرح ذات السؤال:
<<شهيد: عارف شنو هو الموت،؟
شهلول: عارفني ما نقدرش نجاوب.>>8
وسوف تتضح علاقتهما بالموت حين نعلم أنهما يشتغلان في مقبرة كحفاري قبور. وبالنسبة إليهما، فهما يعيشان في عالم الأموات. ولأن المنايا خبط عشواء، مَنْ تُصِبْ تُمِتْهُ من دون سابق إنذار؛ فهما محكومان بعمل مفتوح باستمرار، وملزمان بالحفر بدون توقف. وهو ما جعلهما يطرحان سؤالا وجوديا فلسفيا يتعلق بفردانية الفرد: "مَنْ أكون، وماذا أكون"؟. سؤال ينم عن أن الوجود الإنساني وجود ذاتي، بمعنى أن كل فرد له وضع وجودي خاص به، وهو ما يميز الموجود البشري عن سائر الموجودات. إنه سؤال جوهري من حيث هو جزئي عارض يخص ماهية التفرد الإنساني، ولا يندرج تحت أية بنية نسقية عقلية.
إننا بصدد نص مسرحي مُغرِق في الوجود الذاتي، من غير الممكن أن تعريفه وتقديمه بوصفه مُعْطًى موضوعيا. بهذا المعنى، يصبح العالم حالة وجودية متصلة بالفرد في فردانيته. وهو ما يتناقض مع العقلانية التنويرية التي انبنت على نسقية فلسفية لا تعترف بالفردانية، وتنظر إلى الفرد باعتباره حقيقة واقعية وموضوعية.
<<شهلول: عاجبك راسك في هاذ الخدمة؟
شهيد: غير كنحس براسي عايش
شهلول: زعما غير كتنفس؟
شهيد: ألّا
شهلول: كنحس براسي مخنوق
شهيد: حتى أنا كيجيني هذا الإحساس
شهلول: حيت ما عرفيناش نحياو
شهيد: صمت
شهلول: واش عمرك سولتي راسك؟
شهيد: علامن؟
شهلول: علاش انت ما قدرش توقف الخدمة؟
شهيد: سولت راسي
شهلول: شنو لقيتي الجواب؟
شهيد: أنني ماشي حر
شهلول: كتحس راسك مخنوق؟
شهيد: ؤ مدلول
شهلول: وعلاش؟
شهيد: ما نقدرش نقول ألّا
شهلول: حيت أنت خوّاف
شهيد: وأنت؟
شهلول: كنخاف نتبهدل
شهيد: تحكرنا
شهلول: حتى لاين؟؟ امتا نتعلمو نقولو ألّا إمتا>> 9
في هذا الحوار الثنائي يتضح أن المستفسر (شهلول) لا يسعى إلى معرفة موقف شهيد من الحياة، ولا هو معني برؤيته إلى العالم، لأن كليهما يعرف الآخر بحكم العلاقة الوطيدة التي تجمعهما، والعزلة التي توحدهما؛ بل نحن بصدد ما يمكن اعتباره مونولوجا أو حالة تأمل. فشهلول الذي أسرَّ عن شعوره بالمهانة وعن معاناته من حالة الاختناق والإذلال والبهدلة والخوف التي تلازمه، يعود ويسأل رفقيه إن كان يعاني هو الآخر ذات المعاناة. وتكاد تكون أجوبة شهيد طبق الأصل، وترجمة صادقة لما يعتمل في أعماق شهلول. إن الأمر يتعلق بوقفة مع الذات في مواجهة العالم، إذ كل منهما يمثل بالنسبة للطرف الآخر المرآة الكاشفة للمعاناة الدفينة والمتأصلة في أغوار نفسه. ولعل أبرزها قلق الموت الذي يقف إزاءه الإنسان عاجزا لا يملك إلى دفعه سبيلا، بسبب غموضه المتمثل في الجهل بالزمان أو المكان أو الطريقة التي يمكن أن تحدث بها، وأكثر ما يثير الضيق كونه يشغل البال إلى حد الضجر في الوقت الذي تنفر النفس من الحديث عنه.
<<شهيد: أنا ما باغيش نموت
شهلول: واش جاب الموت للهدرا
شهلول: راني خايف
شهيد: مناش راك خايف... سكت... أنا غانقوليك... راك خايف من الموت... حيت ما فهمهاش>>10
هذه المجادلة عن ماهية الموت والحياة تعكس الوضع الوجودي للإنسان في معضلته في الزمان والمكان التي تتجاوز حدود ماهيته بوصفه كائنًا بشريا من دون أن يلقى جوابًا شافيًا. <<إن مفهوم الموت مرتبط لدى كثيرين بانفعالات عنيفة ومشاعر جياشة واتجاهات سلبية، تتجمع معًا مكونة ما ندعوه بإيجاز "قلق الموت" أو الخوف منه. وليس من اليسير أن نذكر دراسة الموت في مجال علم النفس دون أن نذكر محوره المركزي، ألا وهو قلق الموت.>>11 إنهما يعرفان جيدا أن الموت المادي للجسدي وارد في أية لحظة، وهو مقدر على الإنسان، فـ <<كل نفس ذائقة الموت.>>12
- فما الذي تخشاه هاتان الشخصيتان إذن،؟
- ولماذا هذا الرعب من الموت وهما يتعايشان معه بحكم المهنة،؟
- وما هو مفهوم الموت بالنسبة لهما.؟
إن الميت المفترض الذي حُفر قبرُه ولم تشيع جنازته بعد، وقد أشرف النهار على زواله، فيرمز إلى الغموض الذي يكتنف مفهوم الموت: "من الميت الحقيقي"، "من هو الميت في الحقيقية". وهو غموض مقرون بالقلق والخوف كانفعالين سلبيين من المجهول والخفي والغير المتوقع. <<وقد أكد الفيلسوف "ابن حزم" على عمومية القلق بوصفه حالة أساسية من حالات الوجود الإنساني ، ورأى أن غاية الأفعال الإنسانية هي الهروب من القلق، وأن كل أفعالنا وأحاديثنا تهدف إلى إطلاق القلق وتصريفه.>>13
5- البعد الوجودي في رؤية للعالم
يسعى الممثلان إلى محاولة إدراك العالم الموضوعي انطلاقًا من عالمهما الذاتي المتمثل في الحياة اليومية المعاشة:
<<شهيد: كنت عارفها، ها هما ندمو ِ رجعوه لدارو
شهلول: باش عرفتها؟
شهيد: حيت الصوت ما بقاش
شهلول: يمكن غير تهيأ لك أنك سمعت شي حاجة
شهيد: واش دابا أنت كتفهم حسن مني؟
شهلول: ممكن>>14
يسعى كل منهما إلى معرفة ما يدور من حوله، وكلاهما يزعم أنه أدرى وأعلم من الآخر، ليكتشف لاحقًا أنه في زلل، مما يولّد لديه الشعور بالضياع والحرمان، ويحط من قدرته على الشعور بإنسانيته، ويجعله في حالة توتر دائم في خضم ضغوط متعارضة. إن الحالة النفسية المهزوزة لشهلول وشهيد التي جعلتهما في وضعية المنزلة بين الحياة والموت، هي ذات الحالة التي ولّدت الشعور بضرورة الخروج من المنطقة الرمادية (بين الموت والحياة في المقبرة)، والسعي في تجربة البحث عن أفق. وهي انطلاقة خلاقة في وجودهما <<لإدراك العالم بطرق جديدة تنبني على أساس من المكتشفات العلمية أو الخيال الفني، أو الرؤية الدينية. وهي تعديلات على عالم الحياة اليومية الأساسي الذي هو الأقرب ألينا، ومن المؤكد أنها ليست عوالم الأحلام.>>15
إن شهيد وشهلول يقدمان الذات البشرية والعالم على أساس أنهما <<حقيقتان أصيلتان متساويتان: لا ذات بغير العالم، ولا عالم بدون ذات. وهذا يفضي إلى "الوجود – مع – الآخرين" الذي هو سمة أساسية من سمات الموجود البشري "وجود الإنسان في جسد يتبعه فعل الشعور، وفعل الشعور لا يمكن تفسيره إلا من خلال المشاركة La participation مع الآخرين".>>16وحين ينتفضان في مواجهة العالم، ففي ذلك تأكيد لكينونتهما كذات، وإسماع لصوتهما في العالم الساكن (المقبرة) من جهة، وإقرار بحريتهما في التعبير عن شكوكهما في الوجود المزيف، وإصرار على هتك ستار الحقيقة الوجودية. <<إن الحرية ليست وجودًا ما، إنها وجود الإنسان.>>17
<<شهيد: واش التصفاق ولا ثقافة النفاق... أبدعنا فكلشي إلا كيفاش خصنا نشوفو الإنسان إنسان
شهلول: الإنسان المواطن... زعما المواطن الإنسان... ولّا رقم من الأرقام>>18
إنها محاولة لاستعادة إنسانية الإنسان، وهي خطوة تقتضي المصالحة مع الذات كشرط للتفاعل مع الواقع انطلاقًا من موقع، وتعبيرًا عن موقف. وهو ما يقتضي إيمانًا راسخًا بحرية تبث الصفاء الداخلي، وتُوَلِّد الشعور بضرورة مد جسور تواصل فاعل. إنه فعل تمرد دافعه الإرادة، ورغبة فوارة في طرح السؤال مبعثها الإصرار. وفي ذلك اعتراف بالآخر، وقناعة بضرورة تدمير قيم معينة والتأسيس لأخرى، قبل أن يطلها التدمير عند الضرورة.
وقد وُفق المؤلف عبد العزيز الطيبي في بلورة هذه الرؤية الفنية <<كفعل خلّاق يتجسد في التوليف Montage من خلال التجاوز. فبعد أن كان الحدث في الدراما ينحدر من تطور وحصيلة المعطيات الإنية الداخلية للصراعات الإنسانية، صار مع هذا الأدب الدرامي الملحمي الجديد، نتاج توليف متسام يقوم به المؤلف. هذا يعني أن الحدث قد تم إبعاده ليتحول إلى موضوع حكائي يُقَدم فوق الخشبة. وبتعبير واضح، لقد تم تعويض الحدث بالمحكي الركحي.>>19 إن الأمر يتعلق بشعرية مفتوحة على فرجة التفاعل المباشر مع العرض، وعلى الانفتاح على مختلف الأشكال التعبيرية متعددة وهجينة تتجاوز التصنيف الأجناسي، وعلى اعتبار الفن المسرحي فنًّأ متحولاً في إطار التوليف والتشذير، أي الهدم وإعادة البناء.
هوامش
1- باتريس بافيس، معجم المسرح، ترجمة ميشال ف. خطّار، المنظمة العربي للترجمة – مكتبة الفكر الجديد، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 – 2015، ص410
2- عبد الفتاح قلعة جي، المسرح واتجاهات ما بعد التجريب، جريدة الفنون – الكويت، العدد 54، 2005، السنة الخامسة، ص53
3- نيك كاي، ما بعد الحداثة والفنون الأدائية، ترجمة نهاد صليحة، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، ط2 – 1999، المقدمة
4- عبد الفتاح قلعه جي، المسرح واتجاهات ما بعد الحداثة، مرجع مذكور، ص53
5- نفسه، ص54
6- عبد العزيز الطيبي، الوجع الحياة (نص مسرحي مخطوط)، ص3
7- نفسه، ص4
8- نفسه، ص5
9- نفسه، ص6
10- نفسه، ص9
11- أحمد محمد عبد الخالق، قلق الموت، سلسلة عالم المعرفة – الكويت، العدد 111 – 1987، ص16
12- سورة العنكبوت، الآية 57
13- أحمد محمد عبد الخالق، مرجع مذكور، ص25
14- عبد العزيز الطيبي، وجع الحياة، مرجع مذكور، ص23
15- جون ماكوري، الوجودية، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة – الكويت، العدد57 – 1982، ص 125
1616- Https://www.hindawi.org/books, P3
17- Ibid, P3
18- عبد العزيز الطيبي، وجع الحياة، مرجع مذكور، ص34
19- د. حسن المنيعي، شعرية الدراما المعاصرة، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة – طنجة، سلسلة رقم 47، ط1 – 2017، ص12
العلم الثقافي - الخميس 20 يوليوز 2023