"حَشَرَةُ الْقُلّاس"

عَبثيّةُ الحرب وعَجائِبيةُ الوباء وكاريكاتورية الْواقع

 

(الجزء الثالث)

 

                                           تأليف: كريم الفحل الشرقاوي 

                                           بقلم: د.عبد الرحمن بن إبرهيم

 

يتحدد مفهوم العجائبي في كونه خطاب يتصادم فيه مستويان اثنان:

مستوى أول: الشكل الدرامي الغرائبي يكون صادمًا من حيث الأنساق السمعية والبصرية. وتبعًا لذلك، فالمَشاهِد يكون المشاهد في وضع المنزلة بين المنزلتين: منزلة الواقع الذي يتموقع فيه وينطلق منه، ومنزلة ما فوق الواقع، الذي يتلقاه في إطار حبكة غامضة وبلا معالم تذكر.

مستوى ثان: يحصل انسجام وتناغم تامان مع متخيل المتلقي لأنه يدغدغ عوالم التهيئات والتصورات القابعة في أعماق الشعور، بحيث يتم تأويلها في إطار المستويين العقلاني واللاعقلاني، الموضوعي والذاتي؛ مما يوقع القارئَ للنص والمشاهدَ للعرض في حالة تعارض وتضاد حادين. إن العجائبية تعيد للمرء حس الدهشة الذي يكتشف به الطفل الحقائق لأول مرة.

   يتجلى العجائبي من حيث الشخصيات في أنها تنتمي إلى عالمين: حقيقي وخارق. وتنتاب حالة التردد  المتلقي في إيجاد قاسم بين تفسيرين لهما؛ إلا أنه مُلزَم بقراءة الأحداث المفتعلة في إطار العالم الحقيقي. بهذا المعنى فخصوصية الخطاب العجائبي تتمثل على مستويين: النص والتلقّي

  • على مستوى النص: أولاً في تجاوز حدود الواقع واختراق المألوف المعتاد، وفي وجود دائم للإيهام. ثانيا في اعتماد الوصف المثير والمبالغ فيه.

 بـ - على مستوى الشخصية: يجد المتلقي نفسه في وضعية التماهي مع شخصية أو أكثر على مستوى التلقي بصرف النظر عن موقفه، وذلك في سبيل الإمساك بخيط رفيع يعينه على تضييق الهوة بين المنطقي ونقيضه.  <<أوّلاً لابد أن يَحمل النصُّ القارئَ على اعتبار عالم الشخصيات كعالم أحياء ، وعلى التردد بين تفسير طبيعي وتفسير فوق- طبيعي للأحداث المروية. ثم، قد يكون هذا التردد محسوسًا بالتساوي من طرف شخصية؛ على ذلك يكون دور القارئ مُفَوَّضًا إلى شخصية وفي نفس الوقت يوجد التردّد مُمَثَّلاً، حيث يصير واحدةً من موضوعات الأثر؛ ويتوحّد القارئ مع الشخصية، في حالة قراءة ساذجة. وأخيرًا ينبغي أن يختار القارئ موقفًا معيّنًا تجاه النص.>>(38)

بـ جـ - العجائبي في المسرح

  يمكن اعتبار المسرح العجائبي من أبرز الفرجات الدرامية الرمزية التجريبية المعبرة عن المفارقات والتناقضات التي تعج بها الوقائع المعاشة؛ على اعتبار أن الخطاب المسرحي الفنتازي عبارة ملتقى  لتناصات واستنساخات نصية عديدة بغاية إثراء النص وإغنائه دلاليا. إنه تعبير عن المرئي المألوف ومجسد للامرئي المخيف والمسكوت عنه. وهو ما يوقع المتلقي في حيرة من أمره حين يسعى إلى امتلاك فكرة منطقية عن عالم عجائبي تنعدم فيه السببية. حينها يدخل في حمأة تأويل يخضع فيها اللامألوف لمنطق العقل والعقلانية. تنتابه حالة التردد حيال الشخصيات العجائبية وما يصدر عنها من أفعال وأقوال. فحالما يعتقد أنه اهتدي إلى تفسير للحدث سرعان ما يتبين له أن الأمر يتعلق بمحض إدراك عابر للحواس. وأن الأمر من جهة أولى، يتعلق فعلا بالجمع بين نقيضَيْن لا يجتمعان: العادي والخارق، بين الحقيقة والوهم، المرئي واللامرئي، بين الشيء وضده عن قصد للتعبير عن غرابة الواقع، واختلال موازين العقل والمنطق.  ومن جهة ثانية، اعتماد التحويل والتشويه والتقبيح لتقديم صور ووقائع ممسوخة يختلط فيها الحسي الملموس بالوهمي اللامألوف ولا يخضع لمنطق الأشياء.

   <<إن الخارق ليس خاصًّا بالمسرح، ولكنه يجد على خشبة المسرح مجالا للبحث، بسبب وجود دائم لإنتاج الوهم illusion والإنكار. ولا يقتصر البديل على إنتاج الخيال والحقيقة فقط، بل على تعارض الطبيعي والخارق للطبيعة: "يجب أن يجبر النّصُّ القارئَ على التردد بين تفسير طبيعي، وتفسير خارق للطبيعي، للأحداث المستحضرة.>>(39)             

   العجائبي Fantastique تَمَثَّلَ أول ما تَمَثَّلَ في المذهب السريالي. ورائد الدراما السريالية هو "غيوم أبو لينير" Guillaume Apollinaire (1880- 1918)، وهو أول من أطلق هذا الاسم الذي ينهض على تحدي العقل والعقلانية، وعلى الجمع بين الشيء وضده في أسلوب متضاد، وعلى استكشاف التخيلات الشخصية الواعية وغير الواعية، وعلى إطلاق الخيال الجامح للعقل الباطن اللاواعي من أجل فسح المجال لإنشاء الصور المعبرة. في المجال المسرحي <<رفض المسرح التقليدي، وعارض القواعد المتوارثة في هذا الفن. فهو يرى أن الكاتب المسرحي له مطلق الحرية فيما يكتب، لأنه مبدع المسرحية والمتصرف فيها.>> (40)

بـ د- العجائبي في "حشرة القلاس"

   في هذا النص يتمركز العجائبي على مستويين: الشخصية والحدث

أ- الشخصية: إن شعورها بالضياع، وفقدانها الأمل ورغبتها في الانتحار، جعلها في حالة توتر وتردد دائمين. وهي حالة تلقي بظلالها على القارئ للنص/المشاهد للعرض الذي يسعى جاهدا إلى فهم مشاهد غير مألوفة انطلاقًا من موقعه في عالم المألوف. وهذا التلاقي اللامنطقي بين الخارق والعادي يجد المتلقي نفسه مخيرًا بين تعجيبي Fantastique وتغريبي Etrange. تعجيب إذا تعلق الأمر بشخصية فانتازية، خارقة، لكنها خَيِّرَةٌ، وفاعلة للخير وداعية إليه ومحفزة عليه. قاهرة الشر ومطاردة الشريرين، مثلما هو الأمر – مثلا - بالنسبة لـ "السوبرمان" الذي يرمز للكائن المقدام، الشجاع النبيل، المنتشي بمغامراته الثاقبة، والمتمتع بقدراته الغير العادية، وسعيه الدؤوب إلى الارتقاء إلى مصافي المجد. وهي حالات لا نجد لها نظيرًا في "حشرة القلاس".

   أما التغريبي، فهو خارق ولامألوف، لكن بنزعة سلبية تخلف شعورًا بالاستهجان والاستنكار، لما يثيره من إحساس بالوجوم والنفور، ولما يبثه من ردود فعل استنكارية لدى المتلقي، كأن تتحول الشخصية التغريبية إلى شيطان، أو تُمْسَخَ قردًا، أو تصير بفعل ساحر مخلوقًا مخيفًا، أو حيوانًا كريهًا، أو كائنًا غير مستساغ. وتكاد تكون كل الشخصيات المسرحية في "حشرة القلاس" مخلوقات تغريبية مستهجنة، سواءً في شكلها أو فيما يبدر عنها.

   وكمثال للتغريبية، نورد ثلاثة أمثلة: 

الحالة الأولى: <<تظهر على الشاشة الكبيرة المثبتة في خلفية الركح أعداد لا تحصى من الأفواه البشعة تثرثر بشراهة في الهواتف.>>(41)

الحالة الثانية: <<وفجأة يقتحم الشخص الممسوح الوجه الفضاء الركحي ويفتح مظلة صغيرة ملونة وينخرط في رقصة تعبيرية شاعرية، فتظهر على الشاشة آلاف الآذان وهي تتساقط حول الأفواه الثرثارة كأوراق الخريف الجافة. وفي نهاية المطاف يستقر الشخص الممسوح الوجه منتصبا في الجهة اليسرى تحت بؤرة ضوئية مستظلا بمظلته الملونة. قبل أن يرفع يده بهدوء ويكتب كلمات في الفراغ ثم يمسح ما كتبه بأكمامه. تتعالى رنات الهواتف الثابتة. يرتفع تدريجيا صخبها مثل صافرات الإنذار.>>(­42)

بـ ـ الحدث: في حالة التعجيبي، فإن الحدث يترك أثرًا مستحسنًا ومقبولا. فقد يجد المتلقي نفسه حائرا إزاء حدث أو حدثين أو أكثر، وقد لا يجد رابطًا سببيا بين المشاهد، وقد لا تجد تفسيرًا منطقيا لتطور الحدث؛ ولكن إذا تراوح بين التحبيب والتنفير، فإن المتلقي في هذه الحالة سيجد نفسه أمام غموض الأحداث وغرابتها، وسيبذل جهدًا ذهنيًا لإيجاد تفسيرًا منطقيا لمشاهد غير منطقية، في محاولة منه لتخليصها مما هو تغريبي، وتحريرها من التصوير الكاريكاتوري، والتشويه المسخي.

الحالة الثالثة: <<المنتحر الأنيق: لقد فكرت في الانتحار بهذا (يخرج مسدسا من المحفظة الجلدية ويستعرضه بأناقة ثم يضعه في قلب فمه)، ثم غيرت رأيي وقررت الانتحار بهذه (يخرج من المحفظة أنشوطة ويلفها بأناقة حول عنقه)، ثم راجعت عن فكرة الشنق وقررت الانتحار بهذا (يخرج من المحفظة أنبوبا للحبوب المنومة ويبتلعها في جرعة واحدة ثم يبصقها في وجه الشاشة)، ثم غيرت رأيي وقررت الانتحار بهذا (يخرج من المحفظة منشارا كهربائيا صغيرا يشغله فيرتفع أزيزه) أكيد أن هذا سيكون أكثر استعراضية وفنتازية وفرجوية... (وفجأة يخرج الرجل الأصلع من المحفظة جرذا صغيرا أبيض اللون. ليفصل رأسه سريعا بالمنشار الكهربائي فيتلطخ وجه الشاشة بدمائه قبل أن يشرع في لعق الشاشة بلسانه وهو يرسل قهقهات صاخبة. تختفي الشاشة وتعود الإضاءة كما كانت في السابق)(43)

   لقد بدت كل شخصية في "حشرة القلاس" تغريبية على طريقتها. خمسة عوالم خارقة متناقضة ومتصارعة. وكان عالم الرجل الممسوح الوجه الأكثر تغريبية. شخصية مجهولة الهوية، صامتة، لا اسم، لا ملامح، لا صلة ما تربطه بأية شخصية، تصدر عنه أفعال غير مفهومة، ومفاجئة، وخارجة عن سياق الأحداث، كما هو الحال هذين الموقفين:

<<يدخل وهو يدفع أمامه تمثالًا من التين الشوكي على عجلات صغيرة.>>(44)

<<يترنح جسد الرجل الممسوح، ثم ينخرط في مراقصة التمثال الشوكي، قبل أن يلتحم مع نجمة الإغراء في رقصة شاعرية سرعان ما تتحول إلى رقصة أدائية قاسية.>>(45)

كما أنه يكرر نفسه في أكثر من حالة:

 <<الشخص الممسوح: (يرفع بتثاقل ويكتب بأصبعه في الفراغ ثم يمسح ما كتب بأكمامه).(46)

<<الشخص الممسوح: (يرفع بتثاقل ويكتب بأصبعه في الفراغ ثم يمسح ما كتب بأكمامه).(47)

<<الشخص الممسوح: (يرفع بتثاقل ويكتب بأصبعه في الفراغ ثم يمسح ما كتب بأكمامه).(48)

وسوف تنخرط هذه الشخصية الغرائبية في سلوك أكثر غرائبية في الحدث الأخير من المسرحية. ففي الوقت الذي فجرت جرثومة حشرة القلاس أنبوبتها، وخرجت من المختبر في شكل وحش كاسر أشبه بدبابة زاحفة مخلفة وراءها الخراب والدمار. في هذا الوقت بالذات، أقدمت هذه الشخصية النكرة على فعل كله غرابة <<الشخص الممسوح الوجه والملامح ينخرط في رقصته الشاعرية.>>(49)

جـ - القالب الثالث: العبث

   لا يمكن الحديث عن مسرح العبث من دون استحضار المسرح الطليعي في المقام الأول. فقد كان الأقدر من بين الطلائع المسرحية الغربية التي سعت إلى إحداث ثورة فكرية وجمالية في المفاهيم والتصورات السائدة، والممارسات الفنية المتداولة. كانت الانطلاقة الرسمية للطليعة المسرحية سنة 1896 مع "ألفريد جاري" Alfred Jarry  (1873 – 1907) بمسرحيته الرائدة "أوبو ملكًا" التي <<كانت حملة شعواء على التقاليد الاجتماعية الراسخة، والقواعد الفنية المعروفة، أدت إلى ميلاد مسرحيات أخرى مبتكرة، تأثرت بالحركتين الدادية والسريالية معا.>>(50) منها "المسرح الحر" ورائده الممثل والمخرج والناقد "أندريه أنطوان"  André Antoine  (1858- 1947)، و"مسرح الأوفر" ومؤسسه "لونيى-  Lugné  Poe (1869- 1940) وهو كذلك ممثل ومخرج ومدير مسرح، رائد المسرح الرمزي الذي دشنه عام 1893.

   من المؤكد أن تجربة "ألفريد جاري" تعد بمثابة الشرارة الأولى للعبث الذي آذن بانبثاق مسرح جديد تجريبي، مَثَّلَ ثورةً في الشكل والجوهر. فقد أعلن تمرده عن الأصول الدرامية التقليدية، وتجاوزه للقواعد المسرحية الكلاسيكية المُؤَسَّسَةِ على المحاكاة. فعلى مستوى الشكل الدرامي، سعى إلى تدمير البنية الدرامية بالمفهوم الأرسطي الذي تعتبر روح وحياة التراجيديا، حيث الحدث فيها لا بد أن يكون نتيجة للسابق عليه، ومُمهِّدًا للاحق عليه. وهذه العلاقة السببية هي التي تحصر الفعل المسرحي في المكونات الثلاثة (بداية وعقدة ونهاية) في إطار الوحدات الثلاث (الحدث والزمان والمكان).

   يتأسس مفهوم العبث على رؤية فلسفية مؤداها <<أن منطق الأشياء قد تلاشى ليحل محله منطق العبث، وأن الحديث نفسه وهو جامع الصلات بين الناس قد تراكم في لغو عابث، فاقد الدلالة، ضائع الأثر، عديم الجدوى. وبذلك تكون كارثة ضياع الإنسان كارثة واقعية، لا بمعنى الضياع الوجودي المادي، بل بمعنى فقدان الإنسان لكل مقومات النظم والمعتقدات والأعراف والتقاليد، لأن كل هذه الأشياء لم يعد لها قسمات مميزة، فهي إذا وجدت يومًا، فلم تكن موجودة إلا في أذهان نخبة من البشر أرادت لهذه الأشياء أن توجد.>>(51)  

    يتحدد مفهوم العبث في كونه <<يبعث الشعور كأنه غير معقول، ويفتقر كليا إلى المعنى أو إلى علاقة منطقية مع ما تبقى من النص أو الركح. في الفلسفة الوجودية، العبث هو ما لا يمكن تفسيره بالعقل، ولا يعترف للإنسان بأي تعليل فلسفي أو سياسي لعمله. يجب تمييز عناصر العبثية في المسرح عن مسرح العبث المعاصر. >>(52) وانحصرت تيماته في القضايا المستوحاة من الإحساس العام بضياع إنسانية الكائن البشري المتمثلة في الشعور بالعزلة، والعجز عن التواصل باعتبار اللغة أداة تواصل عقيمة، وعدم وجود قضية معينة، والتكيف مع من حوله، وفي الرغبة في التمرد على ما هو قائم، والتشكيك في القيم السائدة. وهذه الأفكار الجديدة على مستوى الكتابة المسرحية اقتضت أشكالا فنية بديلة تمثلت في بناء درامي غير متصاعد، وفي القسوة والعنف في المواقف، وفي غرابة الأحداث، وفي شخصيات مبهمة بلا ملامح محددة. إننا بإزاء مفهوم ثوري في المعمار المسرحي يجسد التعبير عن عبثية الأقدار، وغرائبية الوجود، وافتقاد المنطق، وكاريكاتورية الواقع. هذه الأنفاس العبثية حاضرة بشكل أو بآخر في "حشرة القلاس"، مما يسمح بقراءتها من زاوية نظر عبثية. غير أن ما هو أكثر عبثية فيها هو نهايتها التي كانت مرعبة وفظيعة.

ضحايا حرب عبثية غير معلنة، يحاربون عدوًّا شبحًا أشعل مواجهة وجودية بلا بداية ولا نهاية. <<لقد انطلق الزحف نحو الجحيم أيها الرفاق..>> (53) إنه الزحف نحو جحيم القتل والإبادة والعدم. فـ "الجميع ضد الجميع"(54) لتكون النهاية المنتظرة جائحة وبائية محملة برؤوس جرثومية تهدد بالعدم.

  لا نكاد نعثر على مدى كل الغارات على حوار تواصلي بين الجد وحفيده المجندين، أو بين المساعد الاجتماعي وزوجته أو ابنته. ولا أثر لحدث أو أحداث متصاعدة، ولا أثر لموقف أو مواقف منطقية، أو لشخصية نامية في منحًى معين. إنها المأساة في أجلى تمظهراتها: <<لا حل لما لا يمكن احتماله، وما لا يمكن احتماله هو وحده المسرح الحقيقي (المأساوي).>>(55)

   مأساوية شخصيات "حشرة القلاس" تتمثل في جحيم بين الجحيمين: جحيم الحرب، وجحيم الوباء. تصرفات مدفوعة بسلوكيات يلفها الغموض، تجد تفسيرها في انفلات الغرائز والرغبات المكبوتة التي تعكس انكسارها السيكولوجي وتحللها الأخلاقي؛ وهو ما انتهى بها إلى فقدانها للمعنى والجدوى،

   نسوق في هذا الصدد مثالين للجد المجند، ولنجمة الإغراء

  • الجد المجند:

<<الجد المجند (يلكز عالمة الحشرات بعنف) شوت.. دعيني أفكر (يفكر وهو يمشي جيئة وذهابا) جاسوسة + خيمة + حشرة القلاس (يلطم صفحة جبهته) أكيد أنها شفرة من الشفرات السرية لاستخبارات العدو (هاتف يرن بمكتب المساعد الاجتماعي فيسرع ليلتقط السماعة) ألو.. من؟ جنودنا في الحرب الجديدة؟؟ مرحبا يا رفاق السلاح (ينصت) ماذا،؟ انتحر زميلك أمامك بسلاحه وتفكر أنت أيضا في اللحاق به؟ اِسمعْ.. لا تُكْثِرْ من الكلام وأَخْبِرْ قادتك فورا بأن حشرة القلاس حاملة لرؤوس جرثومية (ينصت) ماذا،؟ المسدس مصوب إلى رأسك وأنت مستعد الضغط على الزناد؟ وهل هناك جندي في الحرب لا يضغط على الزناد (يصرخ في السماعة) اضغط على الزناد.. أكرر اضغط على  الزناد (يبعد السماعة عن أذنه باستغراب) عجبا.. لقد صرخ صرخة غريبة.. أظنه تعرض لهجوم مفاجئ من طرف حشرة مفخخة (يعود للباحثة وهو يلكزها ببندقيته) أنت السبب أيتها الجاسوسة البدينة.. أنت السبب.>>(56)

بـ- نجمة الإغراء:

<<نجمة الإغراء: (مخاطبة هاتفها اللاسلكي الوردي) اختنق رنينك.. لم تعد تنقل لي دردشاتهم الصباحية.. ثرثراتهم النهارية.. همساتهم المسائية.. هسيسهم الليلي.. كنت يا صديقي تشاركني بوحي الدافئ السخي.. وتقتسم معي أسراري الصغيرة المتسلسلة من ثقوب سماعتك لتستوطن سراديب ذاكرتي المهتمة (...) لقد كنت يا رفيق الأيام الخوالي شاهدًا على شلال مكالماتهم اليومية الناعمة التي تلفظها ألسنتهم المدلاة كأفعى مندسة تحت لحافي.. تحت جلدي المتنمل (...) لقد كانت ألسنتهم اللزجة تدمن لعق أحذيتي الفاخرة.. لتسعف بها صحفهم اليومية ومجلاتهم الأسبوعية وقنواتهم المتناسلة كالجراد (...) لقد كنت يا صديقي القديم ترن.. وترن.. وترن بلا كلل ولا ملل ولا سأم.. وها أنت اليوم أبكم.. أصم.. كأحجار المعابد القديمة.. ومتيبس تيبس أوراق لخريف الجافة. لقد لفظوك يا صديقي الوحيد كقماشة بالية.. كقمامة متعفنة. كجثة متحللة.. لهذا تراني لا أكف عن رتق أكفان الغمام وأنا ألملمك مع بقاياي.. شظاياي.. قصاصات مساءاتي السائلة.. قبل أن أشرع في تزيين حزني الأثير.. حزني الذي ينتعل كعبًا عاليًا ويمشي الهوينى على حافة الخسوف.. حيث اللا أنا.. واللا أنت.. واللا عالم. فقط.. حفنة من الغمام أستوطنها وتستوطنني بعد أن انسحبت مني ملامحي.. وانسحبت مقاسمي.. وانسحبت أساريري... (تنزع قناعها الفضي الأنيق فتظهر تشوهات وجهها) أنا المنسحبة دوما وأبدا.. نحو الغروب.. نحو الأفول.. نحو الغياب...>>(57)

   بالنسبة للجد المجند فهو يجتر حربا ما تزال قائمة في مخيلته، ويتوهم جائحة جرثومية قبل أن تبدأ. ودعوته إلى الضغط على الزناد ليس سوى تعبير عن الشعور بالانهزامية، وعن الوضعية الانتحارية التي دفعته إلى الاعتقاد <<بأن الحياة لا تستحق أن تعاش. إنه يرى غيره يقتلون أنفسهم بشكل غير معهود في سبيل الأفكار أو الأوهام التي تهبهم سببا للحياة (وما يسمى سببا للحياة هو في نفس الوقت سبب وجيه للموت).>>(58) أما نجمة الإغراء، المرأة الشقراء، ذات القوام الرشيق، والقناع الذهبي، والمزينة بفستان السهرة الأسود. فقد انتهى بها الأمر إلى مجرد بقايا وشظايا، فقدت كينونتها وأناها وماهيتها. وقد رَثَتْ نفسها من خلال المونولوج الذي اتخذ شكل حوار لها مع الهاتف.

   إننا بصدد شخوص في حالة انتحار اختياري، وموت مؤجل. إنهم في حالة ضجر وسأم من دون أن يعلموا سببا لذلك. وجدوا أنفسهم في أتون حرب عبثية غير مفهومة، ومهددون بجائحة جرثومية لا قِبَلَ لهم بها. إنهم في مواجهة قوة أو قُوّى ضاربة تهيمن وتقرر ولا يمكن إدراكها. وحيال هذه العدمية الفكرية، يُطرح السؤال: أين هي الحقيقة.؟

   يعتقد "صاموئيل بيكت"   Samuel Beckett (1906- 1989) <<إن الفكر لا يستطيع أن يكشف لنا عن شيء حين نصل بالتحليل إلى منتهاه. فالحقيقة السرمدية تظل أبدا أكبر من أن يحيط بها العقل الإنساني، وبالتالي فإنه لا وجود للحقيقة في الواقع. وهذا اليأس وانعدام الحيلة في عالم غريب يستعصي على الفهم هما اللذان يدفعان إلى النزعة التشاؤمية بما تتميز به من وحشية وضراوة في أعلى صورهما .>>(59)

   في هذه المسرحية، نحن بصدد "اللاحدث" و"اللاشخصية"؛ حيث يجد المتلقي نفسه في وضعية "قارئ ملاحظ" (إذا تعلق الأمر بالنص) "متفرج ملاحظ" (في العرض) في مسرح ما بعد الدراما تتحدد فيه العلاقات حصريا بين الشخصيات في إطار علاقات سببية تُقصي بالنتيجة إمكانية إثارة الفضول ومحفزات التساؤل.  <<إنه مسرح لا يرتكز على مبدأ "الحدث" و "الحكاية" fable، وإنما يقدم "موقفا" أو حالة. كما أن الفضاء يعد عنصرا فاعلا لا محايدًا. ومن ثمّ، فإن السينوغرافيا تكتسي أهمية مادام النص لم يعد الدعامة الأساسية للإنجاز المسرحي.>>(60) إن الحدث/الأحداث وقعت خارج المسرحية (الحرب من قبل)، وستقع لاحقًا (الحرب الجرثومية). فنحن إذن بصدد مسرحية تندرج في إطار ما يصطلح بـ "ما بعد الدراما" <<الذي يجعل الحدود بين الواقع والمتخيل – كما يقول هانس – ليمان Hans-Thies Lemann "أكثر ضبابية وغير واضحة لأن معالجة الواقع في الإنجاز المسرحي تخضع لتأمل الفنان الذاتي الذي لا يسعى إلى تحويل حقيقة خارجية عنه، بقدر ما يعمل على توصيلها عبر عمله الجمالي: أي عبر تحويل ذاتي auto transformation">>(61)

   إن في تضخيم الحدث سعيًا لتجاوز حدود الواقع بما يتناسب مع مفهوم العبث القائم على إفراغ الحدث من معناه، والدفع به إلى خارج المألوف. والغاية هي إضفاء الطابع المأساوي من جهة، وتأكيد البعد الإنساني من جهة ثانية. وإذا كان المفهوم الأرسطي والنيوكلاسيكي يجعل التراجيديا، الجنس الأدبي الأرقي مقترنًا دومًا بالآلهة وأنصافها، وبشخصيات تنتمي إلى علية القوم، وينحصر الحدث الأساس في تحدي قوة خارقة متمثلة في القدر، وتنتهي بالضرورة بتقبل البطل لمصيره المحتوم الموت؛ فإنه في مسرح العبث يتحول إلى كوميديا فظة يصير فيها الكائن البشري مخلوقا أنانيا، متوحشا، أسير غرائزه، ومجردًا من إنسانيته. وهو عند "ألان روب غرييي"- Alain Robbe Grillet <<مجرد مجرم لا فائدة من وجوده، فإعدامه كفيل بأن يحقق الحياة العادلة الهادئة.>>(62)

 

 

 

 

 

هوامش:

38 - نفسه، ص54

39 - Patrice Pavis Dictionnaire du théâtre, P 156

40 - دكتور حمادة إبراهيم، المسرح المعاصر من المعارضة إلى الإبداع، دار الفكر العربي-القاهرة، بدون طبعة وتاريخ الإصدار ص 67 

41 - كريم الفحل الشرقاوي، حشرة القلاس، الغارة الأولى، مرجع مذكور، ص11

42 - نفسه، الغارة الأولى، ص11

43 - كريم الفحل الشرقاوي، حشرة القلاس، الغارة الثانية، مرجع مذكور، ص21

44 - نفسه، الغارة الثالثة، ص27

45 - نفسه، الغارة الثالثة، ص28

46 - نفسه، الغارة الخامسة، ص42

47 - نفسه، الغارة الخامسة، ص43

48 - نفسه، الغارة الخامسة، ص43

49 - نفسه، الغارة الأخيرة، ص52

50 - دكتور حمادة إبراهيم، المسرح المعاصر من المعارضة إلى الإبداع، مرجع مذكور، ص47

51 - معالم الدراما في العصر الحديث، يوسف عبد المسيح ثروت، منشورات المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، بدون طبعة أو تاريخ الإصدار، ص269

52  - Patrice Pavis, Dictionnaire du théâtre, P 21

53 - كريم الفحل الشرقاوي، الغارة الأولى، حشرة القلاس، مرجع مذكور، ص14

54 - الإشارة إلى مسرحية "الجميع ضد الجميع" للكاتب المسرحي آرثر آداموف

55 - جورج ولورث، مسرح الاحتجاج والتناقض، ترجمة الدكتور عبد المنعم إسماعيل، مكتبة مدبولي – القاهرة، 1979، بدون طبعة، ص96

56 - كريم الفحل الشرقاوي، الغارة الرابعة، حشرة القلاس، مرجع مذكور، ص37

57 - كريم الفحل الشرقاوي، حشرة القلاس، الغارة الثالثة، مرجع مذكور، ص28

58 - ألبير كامو، العبث، ترجمة سالم نصّار، دار الاتحاد – بيروت، بدون رقم الطبعة أو سنة الإصدار، ص16

59 - جورج ولورث، مسرح الاحتجاج والتناقض، مرجع مذكور، ص74

60 - حسن المنيعي، حركية الفرجة في المسرح (الواقع والتطلعات)، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة – طنجة،  سلسلة رقم 26، ط1 -2014، ص43 44

61 - نفسه، ص41، 42

62 - حسن المنيعي، شعرية الدراما المعاصرة، (إعداد وترجمة)، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة- طنجة، سلسلة رقم 47، ط1 -2017، ص61

 

 العلم الثقافي - الخميس 15 فبراير 2024