قراءة في النص المسرحي "آش سَمّــاكْ الله"
لَو كانَ المَسرح رجلاً لَكان عبد الحقّ الزَّرِوالي
بعد مسار فني حافلٍ بالريادة المونودرامية والزعامة الرّكحية،
وشهرةٍ ملأت دُنى المغارب والمشارق
وقفةُ تأمل وتساؤل: تجربة المسرح الفردي إلى أين.؟
بقلم : الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم
1ـ قراءة في العنوان: إن الاهتمام بجمالية العتبات النصية الأولى الموازية للمؤلفات، إبداعية أكانت أم نقدية أم فلسفية، يندرج في رمزيتها البصرية أوّلاً، وفي الإثارة الذهنية المحفزة ثانيا، باعتبارها مرشدة إلى النص، ودالّةً عليه، يمثل العنوان أُولاها، والاهداء والمقدمة ثانيها، وخلاصة الكتاب ثالثها في ظهر الغلاف الأخير مع نبذة التعريف بالكاتب إن وُجدت. ولا يجب إغفال "السمة التسويقية" لهذه العتبات في الترويج للمؤلَّف وإشهاره؛ بل إنها تندرج في نسق ثقافي أشمل وأعم. فالناشر يأخذ في الاعتبار الأول العنوان وشكله الطباعي بعد جواز لجنة القراءة لمضمون الكتاب، وقد يبادر إلى إبداء رأيه من خلال "كلمة الناشر" مثلما هو الأمر في "آش سمّاك الله"، حيث أشار: <<... دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر يسرها أن تقدم هذا العمل الإبداعي الجديد لرائد المسرح الفردي الذي يقاوم بمفرده منذ ستينيات القرن الماضي، ولا شك أن هذا العمل الإبداعي الجيد سيلقى ترحابًا في وسط مُحِبِّيه ومتتبعيه.>>1 كما أن أصحاب المكتبات يحرصون من جهتهم على ترويج "المنتوج التجاري" مستهدفين القراء طلابًا ونقادًا وباحثين وإعلاميين...
للعنوان وقع مؤثر على المتلقي. فهو أولاً عتبة الدخول إلى عالم النص، وهو ثانيًّا تأشيرة الجواز للولوج إلى فضائه. وفي عملية استجلاء دلالته يكون قد حفر عميقًا في ذهن القارئ، واستنهضه على استشرافه. إنه بمثابة الأب الشّرعي للنص، ومنه يستمد شرعيته، ويثبت هويته. وأهميته تتبدّى في كونه ملازمًا للنص منذ المراحل الأولى لتكوّنه، وحين يستوي النصّ الإبداعي مكتملاً قائم الذّات، يكون عنوانه قد اكتمل هو الآخر. إن الأمر يتعلق بعلاقة تلازم عضوية، كلاهما يستدعي الآخر.
إن أهمية العنوان بالنسبة للنص بمثابة علاقة الدّال والمدلول، وهو العلامة الأولى التي تسمي النصّ وتميزه عن غيره. إنه نص موازٍ يمثل البداية الحقيقية للنص الإبداعي، الذي لا يمكن قراءته إلا على هدًى من العنوان. إن العنوان Le titre بمثابة عنوان للنص Une adresse du texte. ولا نشك أبدًا في أن العنوان كفكرة يكون ماثلاً بقوة في ذهن المؤلف طوال مدة المخاض النَّصّي، وممّا لا جَرَمَ أيضًا أن ولادته تكون بحجم معاناة النص. وقيمة هذا الأخير تكتمل بحسن اختيار العنوان المناسب، الذي يجب أن يكون مشوِّقًا للنص ومحفٍّزًا عليه. دالاًّ على كينونته، وكاشفًا لهويته.
علاقة العنوان بالنص ليست مجرد إحالة دال على مدلول وحسب، بل إن وظيفة العنوان تكمن في كونه الإشارة الأولى للنص، والباعث على افتراض تصور معين عليه بعيدًا عن شهرة المؤلف، على أساس أن العنوان يمثل عالمًا مستقلاً بذاته. وهو ما يؤكد القول بأن اختيار العنوان المناسب يمثل تحدّيا للمؤلف أوّلاً وللقارئ ثانيا مثلما هو الأمر في "آش سمّاك الله" مثلاً.
إن العلاقة الديالكتيكية الانعكاسية بين العنوان والنص تتمثل في كون الأول منهما وثيق الصلة بأفق انتظار المتلقي، وأن هذا الأفق يتحدد انطلاقًا من العنوان الذي يعين على عمليات ذهنية تتراوح ما بين الجمالي والتأويلي؛ في حين تعتبر المقدمة (النص الثاني) العتبة القرائية الرئيسة التي تحدد من الناحية المنهجيّة زاوية نظر قراءة النص، وتأويله في إطار فعل قرائي شمولي يروم بناء علائق تركيبية وتداولية بين نصين اثنين متقابليْن: النص الإبداعي المنقود (العنوان، المقدمة والنص المتخيل) ونص القارئ (الناقد) الذي يتحدد في رصيده الثقافي، وثرائه المعرفي وتراكمه النقدي. من هنا يبدأ نص القارئ في التشكل بشكل متواز إلى أن يستوي نصًّا نقديًا تأويليًّا مفتوحًا هو بدوره على القراءة والتأويل في إطار النقد الذاتي ونقد النقد.
في مسرحية "آش سمّاك الله" نستفسر عمّا يلي:
ـ ما الدافع/الدوافع التي انتهت بعبد الحق الزروالي إلى عنوان أكثر غرابةً، وأشدّ تعقيدًا مقارنةً مع نوعية العناوين المعتادة التي يختارها لنصوصه المسرحية.؟
ـ ولماذا عنوان في صيغة سؤال مفتوح ينتهي بثلاث نقط للحذف بدل علامة استفهام.؟
ـ وهل هو مؤشر على أن المعني بالسؤال هو كل شخص يتماهى مع شخصية المسرحية، وبذلك يصبح معنيًّا ومُلزَمًا بحتميّة التماس جواب ما.؟
ـ ولِمَ عبارة متجذّرة في ثقافتنا الشفاهية ومتداولة على ألسنة العامة، حمّالة استعمالات كثيرة: في الرغبةً في التعرف على عابر سبيل، في التدقيق في ذي هوية مشبوهة، في التقرب إلى من نرنو التودد إليه، أو نسج علاقة مصلحية ما.؟
2ـ قراءة في المقدمة: بدأ الفنان المسرحي عبد الحق الزروالي مشواره الفني بـ "الوجه والمرآة" 1976، إلى "الطيكوك" 2016، لينتهي به الأمر بالمسرحية الفارقة "آش سمّاك الله" 2017 التي يعتبرها "وقفة تأمل"، لكنها أيضًا تَذَكُّرٍ وتساؤل.
ـ تأمُّلٌ لأن الأمر يتعلق بـ "وقفة" <<عند مجموعة أفكار، حالات وأحداث وخواطر ... مزيج من الحكمة والشعر والزجل والرواية ... ومن الهمسات اللحنية والإنشاد،>> بعد مسيرٍ حافل بعطاء إبداعي متفرد وجذاب، نال شهرة واسعة في المشرق والمغرب. تجربة رائدة ومثيرة وبرّاقة على مستوى المسرح المغربي والمغاربي والعربي، لم ينل أي مسرح مونودرامي حظّا يرقى إلى مستوى البراعة في النص والعرض والتّلقي الذي يحظى به "مسرح عبد الحق الزروالي، الذي <<قدّم ما يفوق الثلاثين عملاً مسرحيًّا فرديًّا كان لها الصدى الواسع داخل المغرب وخارجه.>> وكلّ عَرْضٍ عُرِضَ أكثر من ثلاثين مرةً، ناهيك عن جوائز التتويج التي لا شك أنها تنيف على الثلاثين وأكثر. والسؤال الآن بعد نصف قرن من التألق الفني: إلى أين.؟
ـ وتَذَكُّرٌ وهو القائل في مقدمة المسرحية: <<أذكر وأنا طفل... سنة 1967 عندما راودتني فكرة تقديم أول عرض مسرحي ينتمي لصنف المونودراما، أي ما يسمى بـ "المسرح الفردي". إنها مسرحية "ماجدولين". وبين سنة 1967 و2017 خمسون سنة، أي نصف قرن.>> سعى خلالها عبد الحق الزروالي باحثًا عن كينونته الفنية وهويته المسرحية، عن <<بصمته في دروب هذا الكون>>، في إطار ثنائية متضادتين: <<التجربة الحياتية الغارقة في الوحل والتجربة الإبداعية المثيرة للجدل.>>
ـ وتساؤل بدلالة إشكالية عن ماهية القلق الوجودي الذي يطارد عبد الحق الزروالي الإنسان الذي يأكل ويمشي في الأسواق، وعبد الحق الزروالي الفنان الذي يعيش مخاضًا تخييليًّا مزمنًا في منزلة بين منزلتين: منزلة << الذاتية كمصدر للتساؤل: هل حقًّا أنني عشت كل هذه الفترة الزمنية،؟ وأنني تحمّلت كل هذا العناء،؟ وأنني استطعت التعايش مع إكراهات هذا المجال الموجعة والممتعة.>>؟... ومنزلة الموضوعية النسبية... كقالب فني يحاول استحضار مكونات العرض المسرحي خدمةً للفرجة من خلال أبعادها المنطوقة والمحسوسة والمرئية. <<مسرحية سؤالها الأساسي: لماذا الكوارث دائمات تأتي بصيغة الجمع لا المفرد.؟>> وكأن فصول الحياة محطات انتظار لقوافل لامتناهية من الفواجع.
غير أن التساؤل المحوري الذي تقتضيه الضرورة المنهجية: هو القول بأن هذه المسرحية تؤشر لما يمكن تسميته بـــ "اكتمال الدائرة". ! وهو تساؤل يفضي بدوره إلى تناسل تساؤلات:
ـ هل نحن بصدد منطف فني مسرحي بعد أن اكتملت دائرة صيغة مسرحية راكمت الخمسين عامًا
من الحضور المتوهج.؟
ـ أم أن المخزون الإبداعي في تجربة المسرح الفردي قد استنزف طاقته، وآذن بالنضوب.؟
ـ أم أننا بصدد نَفَسٍ جديدٍ للمونودراما الزروالية يرقى بالنص والعرض إلى أن يكون عند حسن
ظن المسرح بنا.. كي نرقى لمستوى الانتماء إليه.؟
3ـ النص المسرحي المغربي من التألق إلى الانحسار: استطاع المنجز المسرحي المغربي أن يراكم تجربة معتبرة على مستوى الكتابة النصية اعتبارًا من منتصف القرن العشرين، اتسمت بالسعي إلى تجاوز التصنيفات الأجناسية الكلاسيكية الفاصلة بين هذا الجنس وذاك، وإلى التمرد على الحبكة المسرحية التقليدية. وهو ما قاد بالنتيجة إلى الانفتاح على تعبيرات لا حصر لها مستوحاة من الموروث الثقافي الشفاهي اللامادي: قصائد شعرية مغناة، حكايات، ملاحم وأساطير... أو من إبداعات كتابية عبارة عن مذكرات، سير ذاتية، رسائل، خواطر، اعترافات، روايات ودواوين شعرية... ومن الريبرتوار التراجيدي والكوميدي والعبثي في المسرحي العالمي.
جينالوجيا الخطاب المسرحي المغربي تؤكد أن النص المسرحي منح لنفسه حق استكشاف عوالم الدراما وما بعد الدراما، وانطلق باحثا عن أفقه الفني في أقاصي تخوم الكتابة المسرحية العالمية. فكان الانفتاح على مختلف التجارب الحداثية وما بعد حداثية، باحثًا عن مناطق بكر غير مأهولة في طار التجريب الذي يتجاوز المجرَّبَ فيه. وهو ما نحا بجيل المسرحيين الشباب من الخريجين من المعهد العالي للفن المسرحي إلى المراهنة على الكتابة الإخراجية متجاوزين بذلك الإعداد الدراماتورجي. وانتهى الأمر بانحسار المؤلفين المسرحيين، وفراغ الساحة من أسماء وازنة في الكتابة الدرامية والمسرحية بالقياس إلى التجربة الرائدة لمسرح الهواة التي أفرزت كتّابًا مسرحيين ذوي صيت، مشهود لهم بالكفاءة الإبداعية، نذكر منهم ـ مثلاً لا حصرًاـ محمد الكغاط، عبد الكريم برشيد، محمد مسكين، كريم الفحل الشرقاوي، لحسن قناني، المسكيني الصغير، محمد شهرمان، محمد تيمد، أحمد العراقي، مصطفي الرمضاني، أحمد بنكيران، عبد الهادي بوزوبع، جمال الدين الغالبي، عبد العزيز الطيبي، نجيب طلال... والقائمة تطول... مع وجوب التذكير بأن عددًا معتبرًا من المؤلفين من جيل الهواة ـ لحسن الحظ ـ ما تزال حاضرة بقوة مؤثرة في راهنية المشهد المسرحي نذكر منهم ـ مثلاً لا حصرًاـ عبد الكريم برشيد، كريم الفحل الشرقاوي، المسكيني الصغير، مصطفى الرمضاني، عبد العزيز الطيبي وعبد الحق الزروالي... مما يفهم منه أن المونودراما الزروالية تمتلك من المقومات والمقدرات ما يمنحها قوة دفع إبداعية ذاتية لمغامرة مسرحية جديدة. وأن مسرحية "آش سمّاك الله..." أول خطوة في هذا الاتجاه.
4 ـ الخاصيّة المسرحية في "آش سمّاك الله": نحن بصدد نص استثنائي يختلف عما سواه من النصوص التي أبدعها ذات المؤلف. نص منفلت من القوالب السائدة. في "آش سمّاك الله" لا يتعلق الأمر بمسرحية ذات مشاهد أو فصول أو نوافذ، ولا بشخصية/شخصيات محددة المعالم، ولا بتجليات فعل درامي في حدث/أحداث في إطار حبكة مسرحية معتادة. وإذا اعتبرنا أن الخاصية المسرحية la théâtralité تكون تقديرية ونسبية في النص، لكنها تكون بادية وظاهرة وملموسة في العرض. فأين تتمظهر على مستوى النص.؟
تمظهراتها النصية تتبدّى في:
أ ـ عملية إسقاط للحاضر على الماضي من خلال شخصية محمد بن دانيال،2 وهو ما يقتضي مقاربة أولية لمفهوم النص المسرحي. تحديد فضاء النص المسرحي على ثلاثة مستويات: الكاتب (السارد باعتباره ممثلا للنص من خلال الراوي)، والمكتوب (السرد وهو فضاء الحوار المسرحي بين الشخصيات في إطار سياق الذي تنتظم فيه مجريات الأحداث)، و(المسرود له في وضع المتلقي...؟). فالنص بمستوييه (نص المؤلف ونص القارئ)، والعرض بمستوياته الثلاثة (نص المخرج، نص الممثل ونص القارئ) سيجعل النص/العرض عرضة لتناصّات مفتوحة، وعديد قراءات تأويلية وتداولية.
بـ ـ أن السارد هنا هو المدعو أحمد الذي يعرف نفسه في سياق تداعيه الحر بـ "ابن دانيال". وفي هذه الإحالة على شخصية مسرحية عربية تراثية شهيرة دلالة على تقاطع ما بين التجربتين الدانيالية والزروالية. وإذا كان الأمر كذلك، فما هي إذن طبيعة وتجليات هذا القاسم المشترك.؟
جـ ـ السرد الذي يتمثل في تعدد الأصوات في إطار الصوت الواحد هو صوت أحمد. ورغم أن الشخصيات المفترضة تنخرط في خطاب حواري معه إلا أنها تقدم نفسها كأصوات، كشخصيات متوارية. وهي بذلك تتقاطع مع ابن دانيال في بابة خيال الظل، مع فارق بسيط يتحدد في كون شخصيات هذا الأخير مرئية كظلٍّ؛ بينما تقدم الأولى نفسها كشخصيات سماعية.
د ــ كون المسرود له طرف متواطئ ومعني بحكم موقعه كمتلقي، وباعتباره طرفًا مساهمًا في صنع الحدث وضبط إيقاعه ذهنيا في فضائه الدرامي، ونصيًّا من خلال قراءته للنص/العرض.
هـ ـ تحريك الطاقة التخييلية الإبداعية لدى المتلقي الذي سوف يتلقاهما معًا (النص والعرض) أو أحدهما. وسيكون<< بحاجة إلى إعمال الخيال، هذا الذي يتحول عنده إلى خيال مبدع أحيانًا.>>3
وـ أن مبتدأ المسرحية بدأ بسؤال إشكالي يترجم حالة التيه: <<ما العمل.؟>> ليكون المنتهى جذبة روحية ورقصة صوفية تتخللها صرخة توسلات واستعطافات إلى الذات الإلهية طلبًا للرأفة والجود ورفعًا للضيم: <<ربي سيدي وأنت العالم ما في قلبي، جود علي، يا مولاي وراني مضيوم، راني مجذوب، مولاي أحمد.>> تاركة للمتلقي مهمة البحث عن جواب مفترض. ورغم حضور ابن دانيال في النص، ولو من خلال الإحالة على الاسم، فلا أثر يُذْكَر لبابة من باباته التي تندرج فيما يمكن أن نعتبره كوميديا اجتماعية ساخرة؛ في مقابل أن مسرحية "آش سمّاك الله" تتوزعها رؤيتين تراجيدية وكوميدية سوداء، تتخللهما حالات عبثية.
ز ـ أن المسرح الحداثي مفتوح على قراءات تأويلية، يترك بموجبها للمتلقي مهمة البحث عن أجوبة لأسئلة النص والعرض تتمثل في نص القارئ، على عكس المسرح الطبيعي الذي يلغي حق المتلقي في التخييل، <<لأنه يُعَلِّمُ الممثل التعبير بسطوع واكتمال تام، فهو لا يسمح أبدًا بالتلميح في الأداء، أو الأداء غير المكتمل عن قصد. ولهذا تكثر المغالاة في أداء المسرح الطبيعي.>>4
حـ ـ اعتبار هذه المسرحية عملاً فنيًّا حداثيا محفزًا على بعث الشعور بقيم الجمال، على أساس أن <<حفز الخيال شرط حتمي للفعل الجمالي، وقانون أساسي للفنون الجميلة. من هنا، لا ينبغي أن يقدم العمل الفني لمشاعرنا كل شيء، وإنما بالقدر الكافي لتوجيه خيال المتفرج في الطريق السليمة.>>5
ط ـ أن النص كُتب بخلفية ركحية، فقد كانت فكرة العرض ماثلة في ذهن المؤلف. وتبدو كفة الكتابة المسرحية راجحة على كفة التأليف الأدبي اللفظي.
5 ـ الشخصية المسرحية: تعددت الأصوات والمتحدث واحد: أصوات ممشهدَة في شكل لوحات تعبيرية ناطقة بأصوات مختلف أنواعها؛ إلا أنها مختزلة في صوت واحد، متعدد الهويات: <<أنا القادم من هول المطبات والويلات.>> ص12 <<أنا قمقومة القمم، أنا آخر المعجزات، وأنا ضحية هذا الزمن الغاشم.>> ص12 <<أنا أحمد بن دانيال، لا يهمني ما قد مضى، ولا ما قد يحدث من بعدي، سئمت.>> ص14 <<أشعر وكأني عصفور أخضر في يوم ممطر.>> 23ص <<أبدو وكأني محكوم علي بالمؤبد، رغم اني في التقاعد. خطئي أني أحلم بامرأة لم تولد بعد.>> ص40 <<عذاب...عذاب، آسف، آسف، وكأني مصاب، وعلي أن أعترف بمرض اسمه انقراض العواطف.>> ص59 <<يا رب الكون القدر، طال الانتظار، طال الانتظار، طال الانتظار، طال الانتظار.>> ص62 ـ 63 لتكون الخاتمة لوحة تعبيرية قاتمة، تعبر عن فاجعة لا يجد معها أحمد بن دانيال الذي اعترته حالة صوفية لا شعورية سوى البوح بما تفجر في بواطنه، شظاياه صرخات وآهات، يتذكر بعدما ضاق به الحال أنه مولاي أحمد المجذوب: <<الله الله، ربي سيدي وأنت العالم ما في قلبي، جود علي، يا مولاي وراني مضيوم، راني مجذوب... مولاي أحمد، مولاي أحمد، مولاي أحمد.>> ص63
إن أهمية الشخصية المسرحية في "آش سمّاك الله" لا تكمن في قدرتها على صنع الحدث، وتطويره، والتأثير فيه، إذ لا أثر لحدث أو أحداث بالمفهوم الدرامي؛ ولا أثر لحوار بالمفهوم المتداول؛ بل تكمن في اعتبارها رمزًا مشحونًا بالدلالات والإيحاءات المسموعة. فشخصيات النص نفسها كأصوات ذات مستويات ثلاثة: أصوات طبيعية أوّلاً، ملفوظات كلامية ثانيًّا ومقاطع موسيقية أخيرًا. نحن إذن حيال جدلية الصوت الطبيعي والصوت الآلي:
أ ـ الصوت الطبيعي: رياح، نباح، هديل حمام، صوت إنشاد، تغريدة عصافير، زخات مطر، هاج البحر وماج، طرقات على باب الدار.
بـ ـ الصوت البشري: ملفوظات أحمد، صدى آهات، أصوات امرأة، همهمة تعبر عن الحسرة.
جـ ـ الصوت الآلي: فاصل موسيقى أندلسية، عزف على آلة العود.
الصوت البشري في المسرحية يعكس الرؤية المأساوية المتمثلة في الجانب الإدراكي والمعرفي والسيكولوجي لشخصية أحمد بن دانيال، في المقابل يترجم الصوت الطبيعي الجانب الآخر المظلم والغامض والمضطرب المشحون بحدة التناقضات في شخصية أحمد. فهديل الحمام وتغريدة عصافير يقابهما رياح ونباح وهيجان البحر وطرقات مفاجئة على الباب. وبين تقابل الصوتين يتموقع الصوت الآلي المتمثل في موسيقى أندلسية ونغمات على آلة العود، كدلالة على المنزلة بين المنزلتين. وقفة تأمل ولحظة إشباع جمالي لروح تعاني التشظي بين وقائع مريرة لا تطاق، وأحلام مجهضة مستحيلة المنال تعكس حالة كوميدية سوداوية.
6 ـ الإنسان يقاس بصوته: هناك فرق بين الصوت اللغوي والصوت الغير اللغوي. وفي كلتي الحالتين لا بد من امتلاك المهارات الجسدية منها أولاً. فقبل المهارة اللغوية لا بد من التمكن من استخدام التنفس وضبط الحبال الصوتية ومخارج الحروف لإصدار الصوت المناسب بالقدر المناسب من جهة، وكيفية الربط بين النغمة الصوتية ودلالاتها. إن التواصل بين الممثل والمتفرج مرهون بجملة من المقتضيات، <<أولها أن يستطيع كل من الطرفين رؤية أو سماع الآخر. ومثاليا ينبغي أن يتحدث الطرفان نفس اللغة وأن يشتركا في نفس الفرضيات عن دلالات الكلمات المستخدمة، كما ينبغي أن تتوافق أنظمتهما الإشارية والإيمائية الواضحة والدقيقة.>>6 إن الغاية تتمثل في خلق حالة نفسية تولد الإحساس بوجود شخصيات افتراضية ذهنيا، وبوجود مكان/أمكنة غير مرئية في فضاء الركح من خلال خلق صورة/صور ناطقة بمقاطع صوتية متخيلة في ذهن المتفرج تتناسب والصورة التي يريد المخرج أن يراها من دون أن تكون مجسمة أمامه بالعين المجردة على الخشبة. بلوغ المخرج هذا المسعى رهين بتقنياته الإخراجية في تحريك انفعالات المتفرج، وفي حثه على التفاعل مع الأنساق الدلالية، ومحاولة فك شفرته المسرحية في إطار ردود الفعل التواصلية مع رسالة العرض.
على مستوى النص من الجائز التأكيد على أن مسرحية "آش سماك الله" تؤشر على تحول جديد في مفهوم الكتابة المسرحية عند عبد الحق الزروالي، قوامها صيغة تعبيرية مستجدة تختزل الحدث والحوار في لوحات بصرية ذهنيًّا، سمعية عمليا؛ ممّا يقتضي بالضرورة رؤية إخراجية مغايرة تأخذ في الاعتبار الرسائل الصوتية باعتبارها علامات إشارية تتحول إلى صور ولوحات تعبيرية في عين المتلقي سعيًا إلى استخلاص المعنى في إطار التلازم الدلالي بين النص والعرض، ورصد التجليات الإبداعية المتمثلة في النزوع الابتكاري على مستوى الشكل الذي يساهم في الارتقاء بالفعل المسرحي نصا وعرضا وأداءً وتلقيا إلى مستوى الأسلبة بشعريات مغايرة.
هوامش:
1ـ عبد الحق الزروالي، آش سمّاك الله ـ نص مسرحي، سلسلة: المسرح والحياة(1)، دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر ـ الرباط، ط1 ـ 2017
2ـ محمد بن دانيال الخزاعي الموصلي (647هـ 1249م ـ 710هـ 1311م)، الذي عاش في العصر المملوكي، أبدع تمثيليات اعتبرت ترفيهية ساخرة سمّاها البابات، ولم يصلنا منها سوى ثلاث: "طيف الجيال"، "عجيب وغريب" والمتيم والضائع اليتيم". الذي هجر إلى مصر بعد سقوط بغداد في يد المغول.
3ـ فسيفولود ما يرخولد الكتاب الأول في الفن المسرحي، ترجمة شريف شاكر، دار الفارابي ـ بيروت، ط1ـ 1979، ص49
4 ـ نفسه، ص49
5 ـ نفسه، ص51
6 ـ جوليان هلتون، نظرية العرض المسرحي، ترجمة د. نهاد صليحة، هلا للنشر والتوزيع ـ الجيزة (جمهورية مصر العربية)، ط1 ـ 1420هـ ـ 2000م، ص221ـ222
العلم الثقافي - الخميس 11 نونبر 2021 الموافق من 5 ربيع الثاثني 1443