قراءة في الاحتفال المسرحي:

"تُماضر ومعزوفات للاجئين"

للباحث والكاتب والممثل والمخرج الدكتور محمد فرح

 

حينَ يَحْضُر الْمُؤَلِّفُ بِنَفَسِ الْمُخْرِجِ وذِهْنِيَّةِ الْمُتَلَقّي

 

                  بقلم الدكتور: الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم

                                                          

 1- الزمن في العرض المسرحي:

   الحديث عن الإخراج المسرحي يحيل مباشرة على العرض المسرحي، وهذا الأخير يحيل بدوره على فضاء اللعب في معماره السينوغرافي. فالركح المسرحي فضاء لصناعة فرجة تحقق للمتفرج متعة بصرية قوامها التعبير الجسدي، وغايتها الإشباع الجمالي. وإذا كانت الفرجة لا تستقيم إلا بممثل ومتفرج؛ فإن صناعة الفرجة لا تستوي سوى بهندسة مشاهد تتأسس على رؤية إخراجية زاخرة بالعلامات البصرية السمعية، محملة بشفرات تستجيب لأفق انتظار المتلقي.

   وحينما نفكر فيما يعنيه المسرح بالنسبة إلينا؛ فإن اهتمامنا ينصرف مباشرة إلى العرض. إلى تلك اللحظة التخييلية العابرة في الزمان، وتلك الصورة المختزلة لحياة معينة في المكان، وما تخلفه من إثارة ذهنية، وقراءة جمالية، وأسئلة تشكيكية فيما بات مكرسًا مألوفًا، وباحثة باستمرار عن أجوبة شفّافةٍ شافيةٍ.

   إن زمن العرض المسرحي لا يقاس بمدة محدودة يجتمع فيها المتفرجون في مبتدئه ليتفرقوا في منتهاه، إنه زمن تتداخل فيه أزمنة شتى: زمن التاريخ، وزمن الحدث، وزمن الشخصية، وزمن المتلقي. كل هذه الأزمنة تتداخل وتتقاطع من أجل ابتداع واقع، مشهد، على درجة من التكثيف والتقطير.  في العرض المسرحي لا يهم إن كانت تيمته اجتماعية أو واقعة تاريخية أو حادثة سياسية أو انتفاضة مسلحة، أو غيرها...

    إن العرض المسرحي يمثل لحظة حلم تترفع عن الواقع المعيش، وفرصة بحث في يوتوبيا زمان ومكان العرض المسرحي. إن الأمر يتعلق بمحاكمة للتاريخ، واستنطاقه، وإعادة قراءته في أفق استدراجه لزمن مستقبلي مغاير منشود؛ وذلك بإسقاط الواقع بهمومه، والمجتمع بتعقيداته على الملاحم الأسطورية التي شكلت على الدوام غذاءً روحيّا للفكر البشري وما تزال، وعلى الشخصيات البطولية الحاضرة في وجداننا، والمؤثرة في معتقداتنا. إن العرض المسرحي يتيح للمتفرج معايشة الأحداث وملامسة الوقائع، معايشة وملامسة تجعله على درجة من التفاعل الذي يتيح إعادة قراءة الماضي "الذي كان" إلى "ما يمكن أن يكون".

    في المسرح تصير الأزمنة زمنًا مسرحيّا استشرافيّا يستلهم من التاريخ لقراءة الواقع، ويستشرف المستقبل من أجل فهم الحاضر. العرض المسرحي يستحضر الماضي من أجل غاية تتحدد أساسًا في فهم الذاكرة الإنسانية، وما تحتويه من عبقرية راسخة منذ عهود غابرة، ما انفكت حاضرة وفاعلة في إلهام الشعوب في صنع أقدارها، وتحفيز العقل البشري على المواجهة وصنع التحدي. وذاك هو المسرح الملتزم الذي تتحول فيه المسرحية إلى حلبةِ مواجهةٍ ناقدةٍ للواقع، متحركة ٍبحركة التاريخ. وأن ما يجري على الركح ليس سوى مرآة لما تشهد به الوقائع. وهي دعوة مفتوحة لوعي المتفرج ليحدد موقفًا منبثقًا من وعيه المتوقد، ولتحريك الشعور بضرورة التفكير والسعي إلى التغيير.

   بهذا المعنى، فإن منزلة العرض المسرحي تقع بين منزلتين: منزلة التاريخ ومنزلة الحياة التي نحياها. وهي منزلة يسعى فيها إلى إضفاء منظوره الفلسفي، وإنزال الخاصية الدرامية في بنية الخطاب المسرحي. وبذلك تصير الشخصية التاريخية كما يرويها التاريخ شخصية درامية تتجاوز إطارها التاريخي لتنخرط في أجواء المشهد المسرحي بوصفها مالكةً القدرة على صنع الحدث المسرحي الذي يسائل الثابت، ويحاكم المكرس، في أفق خلخلته وتحريكه في اتجاه اختراق الحاضر وتخطي الواقع في اتجاه تشكيل الزمن المستقبلي.

2- النص الدرامي بِنَفَسٍ مسرحي:

    <<إن النصوص المسرحية لا تتحقق إلا في العرض المسرحي.>>[1] بهذا المعنى فالمؤلف وهو يصوغ نصه الإبداعي، يستحضر – شعوريًّا- نصوصًا أخرى، حاضرةً بقوة في ذاكرته الثقافية، ومؤثرةً في رؤيته الإبداعية، وماثلةً في خلفيته الإيديولوجية. كما أنه يحتضن – لا شعوريًّا- التجربة التاريخية المتمثلة في الحكايات والسير الشعبية والروايات والأساطير ... لا ليركن إليها، ويستكين إليها؛ ولكن ليستمد منها الحس الإنساني الذي يمثل الغذاء الروحي للإنسان على مرّ العصور، وليكتنز منها البواعث الحقيقية للحياة، وليقبض على المحفزات الباعثة على التغيير لمستقبل الإنسانية، وليكتشف عناصر القوى المساعدة على التحول والتجديد.

   في الممارسة الإبداعية يسعى المبدع كاتبًا أكان أم رسّامًا أم شاعرًا أم ممثِّلاً إلى المختلف واللاّمألوف. وهي عملية لا تتأتّى سوى لمن امتلك أفقًا في الرؤية وملكةً في الخلق. ويكاد يكون المسرح بمستوييه: النص والعرض  الأقدر على إقناع المتلقي بأن كليهما - ولئن كان فعلاً إبداعيًّا اصطناعيًّا -، يمتلك قدرة ساحرة على بثّ فكرة تجسّد حقيقة وليس تخييل/ تمثيل. وذلك ما يفسر ذلك السحر الرهيب الذي يستطيع نص مسرحي أن يمارسه على أجيال متعاقبة، من أمثال الأوديسة، كلكامش، أوديب، السحب، أوبو ملكًا، جريمة قتل في كاتدرائية، هاملت، فاوست، دون كيخوته، في انتظار كودو، أبيدي أو كيف تتخلص منه...، ونصوص مغربية خالدة في الذاكرة نذكر منها تراجيديا السيف الخشبي، اِفتحوا النوافذ، الضفادع الكحلة، لحوم في المزاد، البحث عن رجل يحمل عينين فقط، ما قالك حد عينك زورق، امرؤ القيس في باريس...  وعروض مسرحية تأسر المتلقي بشد انتباهه، وإقناع فضوله، وإشباع حسه الجمالي.  وإذا كان من الصعوبة بمكان على المتلقي الإمساك بكافة الأنساق البصرية والسمعية المرسلة بكثافة في حيز زمني وجيز من فضاء اللعب إلى فضاء الجمهور؛ فإن الفرصة تتاح في الاستحضار الذهني لمشاهد العرض. وهو ما يقتضي منهجيًّا ضرورة التأويل سعيًا إلى محاولة فك شفرات العرض بفتح أكثر من زاوية. والأمر نفسه يسري على النص سواءً أكان ذات نفس درامي أو مسرحي.  

3- المعمار الفني في "تماضر ومعزوفات للاجئين": [2]

   في "تماضر ومعزوفات للاجئين" نحن بصدد نصّ يندرج في إطار الأدب الملتزم La littérature engagée. ويتحدد مفهوم الالتزام في تعريف جان بول سارتر Jean Paul Sartre بقوله: <<إن الأثر المكتوب واقعة اجتماعية، ولا بدّ أن يكون الكاتب مقتنعًا به عميق اقتناع، حتى قبل أن يتناول القلم. عليه أن يشعر بمدى مسؤوليته، وهو المسؤول عن كلّ شيء، عن الحروب الخاسرة أو الرابحة، عن التّمرّد والقمع. إنه متواطئ مع المضطهدين إذا لم يكن الحليف الطبيعي للمضطهدين. مسؤولية الأدب، ولتوكيد أن الكلام الأدبي ليس مجرد ترويح عن النفس أو تعبير جمالي، وإنما هو موقف يستتبع المسؤولية.>>[3] وهو ما يتطابق تمامًا مع الرؤية الإبداعية للدكتور محمد فرح سواء في ممارسته المسرحية التي ما تزال تنهل من معين مسرح الهواة، أو في إسهاماته الأدبية في مجال القصة الشعر وحضوره الإشعاعي كما تشهد بذلك الملاحق الثقافية والصفحات الأدبية في الصحافة الوطنية.

   تتألف المسرحية من خمسة نوافذ يراد بها التأكيد على أن الأمر لا يتعلق بما اعتاده المشاهد في البناء الدرامي للمسرحيات؛ بل ببناء ملحمي ينقل مجريات الأحداث إلى الفضاء الدرامي الذي هو فضاء الجمهور، ويتحوّل ذهن المتفرج إلى خشبة متخيلة. وذلك يصبح طرفًا مسؤولاً في صنع العرض. وقد وظف المؤلف/المخرج تقنيات عديدة منها:

أ - المسرح داخل المسرح:

    تقنية درامية من صنع جماعي تبيح إقحام مسرحية (نص/مشهد) داخل المسرحية الأصل بصرف النظر عن العلاقة الممكنة بينها؛ ممّا يؤدّي إلى بنية مشهدية مركبة بحكم القطع في الحدث/الحوار ينفصل فيه الممثل عن الشخصية ليتحوّل إلى متفرّج يشاهد عرضًا/مشهدًا في المسرحية الثانية، وتتحوّل الرّكح إلى حيّزين اثنين، الذي تجري فيه الأحداث والثاني للمتفرج؛ ممّا يجعل المتفرج الحقيقي في فضاء الجمهور يرى صورة لوضعه على الخشبة، إذِ الممثل يلعب تارةً الشخصية المسرحية، وتارة أخرى يلعب شخصية المتفرج. إنّها تقنية تتوخى إقحام المتفرج باعتباره طرفًا معنيًّا يساهم في صنع الحدث والاسهام في تطوّره. وهو ما حرص عليه المؤلف والمخرج محمد فرح، فعلى مدى النوافذ الخمسة هناك إصرار على اعتبار الفعل المسرحي احتفالا جماعيا تتحطم فيه الحدود بين فضاءي اللعب والجمهور. وأن العرض سيكون من صنع جماعي تزول فيه الحواجز بين المؤلف والمخرج والتقني والمشاهد: <<واصف: أحسنت التعبير (يصفق) أحسنت التشخيص يا فاطمة. صامد: خلتك نجمة من نجمات هوليود. فاطمة: شكرًا على الإطراء.. شكرًا.. ولكنني لم أقم إلا بما أمرني به المخرج.>>[4]

<<واصف: ألا ترى معي أن هذا خروج عن النص.؟ صامد: طبعًا هو بلحمه وشحمه وعظمه، فالمؤلف لم يكتب هذا في النّص. المخرج: فليكن بتصرف... ألا تعرفون كلمة بتصرف... كلٌّ يتصرف حسب هواه، ثم أنسيتم أنني أنا المخرج وهذا من حقي أن أتصرف في النص كيفما يحلو لي. نيرون أحرق روما ولم يبال، هتلر روّع العالم وأرداه خرابًا ولم يبال... اسمعوا يا رفاق... ما شئت أنا لا ما شئتم أنتم، ولا شاء المؤلف حتى. صامد: (يدخل المؤلف حاملا بعض الأوراق) ها هو ذا المؤلف قد حضر. المؤلف: عمتم مساءً أيها الرفاق... أخبروني كيف هو حال شخوص مسرحيتي؟. المخرج: شخوص مسرحيتك الآن في استراحة، أما هؤلاء فهم مَنْ يشخصونها. المؤلف (ينظر إلى الممثلين واحدًا واحدًا) أظن أنك جمعت خيرة الممثلين.؟ المخرج: طبعًا، فهم من أوساط وعائلات مختلفة، البعض منهم من العرب الإسرائيليين والبعض الآخر من فلسطين. المؤلف: كلنا فلسطينيون، لا فرق بين هذا وذاك.>>[5]

بـ - إشراك الجمهور في العرض:

       على مدى كل النص عمد المؤلف إلى خلخلة المشهد/الحدث إلى الحد الذي يسمح بالقول بـخلو النص من الحدث. فالمتفرج يعلم أنه بصدد عمل تمثيلي تخييلي، وهو ما يحفزه ذهنيّا للتفاعل على المستويين الفكري والنقدي، على أساس أن الأمر يتعلق بفعل مسرحي تسييسي تحريضي تعليمي. لذلك كان الجمهور حاضرًا كطرف مسؤول لدى المؤلف والمخرج والممثل منذ البداية. ففي النافذة الأولى كانت الانطلاقة باستحضار الجمهور: (... فجأة ينزل المايسترو إلى مقدمة الخشبة صائحًا، فيتوقف الرقص) المايسترو: لا... لا... ما هكذا سيستمر هذا الرقص... أيها السادة (للجمهور) ما جئناكم الليلة لنبكي وما جئناكم لنحكي... وما جئتمونا أنتم كذلك للغرض نفسه.>>[6] وفي محاولة منه لنسف الايهام المسرحي حرص المؤلف/المخرج على التذكير المتواتر للمتفرج بضرورة اليقظة الذهنية من خلال إشراكه عمليّا في العرض. ففي النافذة الخامسة دخل المؤلف والمخرج في حوار ثنائي: <<المخرج: إنه من حسن حظي أن أكون أنا مخرج هذا النص المتشعب. المؤلف: رغم تشعبه، فقد استطعتَ أن تزرعَ فيه روح الحركة والإبداع. المخرج: إن التأمل والانفعال الداخلي هو من ألهمك ولا شك ما كتبت.؟ المؤلف: صدقت...ولكن ألا ترى معي أن ما ستقدمه لا يحقق ما نتمناه إلا بالحوار مع جمهور القاعة.؟ المخرج: أحبذ هذه الفكرة، وقد أمرت الممثلين بالنزول إلى القاعة لمساءلة الجمهور.>>[7]

ج ــ الارتجال:

       لا بد من التذكير أن الخطوات الأولى للتجريب المسرحي بدأت أول ما بدأت بالارتجال انطلاقًا من النص. وهي المحاولات التي استهدفت قدسية النص، وانتهت بقتل المؤلف. تمرد أودى بـ "مسرح المؤلف"، وبشر بـ "مسرح المخرج" الذي استعاض بأنساق بصرية سمعية. وقاد لاحقًا إلى مسرح الممثل الذي أسس للغة بليغة قوامها تعبيرات جسدية تعيد للمسرح احتفاليته، وتستحضر ما يصطلح عليه رولان بارث بـ "الشعيرة الديونيزوسية"[8] التي تجعل من المتفرجين ممثلين، وكل واحد يجد نفسه في الآخرين. لقد وعى الدكتور محمد فرح هذه النزعة الديوزيزوسية  بتأكيده على اعتبار مسرحيته "احتفال مسرحي". وسندنا في ذلك الحوار الذي أورده في النافذة الخامسة بين المؤلف والمخرج:<<... وكيف؟.. أتكون الأسئلة اعتباطية... لا... لا يا مخرج المسرحية.. إنني أخشى الفوضى والفتنة... وأخطارها. المخرج: إذن يا سيدي ما عليك إلا أن تضيف تفتح أخرى. المؤلف: ولهذا أتيت. المخرج: فلنفتحها إذن، وأظن أننا لن نحتاج إلى إخراج آخر. المؤلف: لا... لا... يا مخرج مسرحيتي... أنا أرفض الارتجال، وعليك أن تحرص على الضبط.>>[9]

       ما يدعونا إلى الإقرار بذلك كون المؤلف والمخرج كشخصيتين مسرحيتين على توافق تام على أن الأصل في الارتجال حيلة اضطرارية يلجأ إليها الممثل للقيام بفعل تركيبي لا متوقع ارتبط أكثر بالكوميديا المرتجلة. <<إنه إنجاز حدث لا إرادي وغير مقصود، والخضوع لاندفاع واحد لا غير. وبعبارة أخرى، فإن الارتجال بإمكانه أن يرتكز في جوهره على إبداعية نستمد فرضيتها من تلقائية حدسية أو خيالية.>>[10] وغالبًا ما يتم اعتماد الارتجال في العروض التجريبية التي ترنو الى المختلف واللامألوف كتعبير عن رفض الزخرف المسرحي الثابت، والاستعاضة بتحقيق تواصل عفوي بالمشاهد. إنه محاولة هدم الديناميكا الفردية وتمكين التخييل الارتجالي المسرحي من الإقناع الجمالي. <<إن تقنية الارتجال المسرحي لا توحي بمعناها الحقيقي إلا إذا نظرنا إليها من خلال الاستراتيجية الشاملة للميتا التعبيرية التي تشكل إحدى فروعها الأكثر إدهاشًا>>[11]

       ومعلوم أن إمكانية الارتجال تتيح للممثل أشكالاً تعبيرية تندرج في اللامتوقع بالنسبة للمشاهد، لكنها محتملة أكثر بالنسبة للممثل. وفي هذه الحالة فنحن أمام حيل يستعملها المتحاورون ومحاورون محتملون من الجمهور للتحرر من صرامة النص، وضوابط الإخراج لضرورة فنية تقتضيها اللًّعبة.

د ـ الاستلهام من التراث:

       من المعلوم أن المادة التراثية يمثل رافدًا حيويّا في العملية الإبداعية. وبمقدار ما يُستلهم من الموروث شعبيا، أسطوريا،  فلسفيا، أو ثقافيا يرتقي الخلق الفني إلى درجة التّفرد والخلود.  ففي التراث يجد الفنان ضالته لاستنبات أفكار معبرة عن الواقع، ومترجمة لاستشرافات المستقبل من دون أن يعني ذلك اجترار الأشكال البدائية للإبداع الفني وإسقاطها على الواقع، بل إنها مناسبة للمبدع لأن يعيد الاعتبار للشخصيات التراثية. وللتذكير، فقد كانت مسرحية "أبو الحسن المغفل" لمارون النقاش 1850 أول مسرحية عربية تستلهم من التراث الحكائي العربي المتمثل في ألف ليلة وليلة، وعلى هداه سار أبو خليل القباني. ومن بعدهما توفيق الحكيم، الطيب الصديقي، سعد الله ونوس، عبد الكريم برشيد، عز الدين المدني،  قاسم محمد، علي الراعي وروجيه عساف... إسهامات تعبر عن رؤية معاصرة للتراث تتعامل معه انطلاقًا من مواقف وليس مجرد مجموعة من المعارف.

       لقد استلهم الدكتور محمد فرح "تماضر ومعزوفات للاجئين" من الرصيد الشعري الجاهلي لتطويع التراث، وانتشاله من جمود الماضي إلى حيوية الحاضر ليساهم في تطوير التاريخ، وتغييره نحو القيم الإنسانية المثلى. إن تجربة محمد فرح في مسرح الهواة تمثيلاً وتأليفًا وإخراجًا ماثلة بقوة في هذا النص متمثلة فيما نصطلح عليه بـ: "مسرح القضية". وبالنسبة إليه على المسرح أن يمارس دوره التثويري والتنويري المنحاز جماهيريا، من خلال الدعوة إلى سلطة حقيقية ومؤثرة للمسرح في المجتمع. وهي عملية لن تنجح سوى بالفكاك من هيمنة النموذج الغربي للمسرح في إطار التأكيد على جدلية: "الأنا والآخر"، من دون أن يعني ذلك الانغلاق والانكفاء.

       في مسرحية "تماضر ومعزوفات للاجئين" تحضر شخصية مسرحية باسم "تماضر" لا علاقة لها بنت عمرو بن الحارث المشهورة بـ "الخنساء"، شهيرة قبيلتها وسيدة قومها، أفاض عليها جمالها رهبة وهيبة. عرفت بقوة الشخصية ورصانة العقل ورجاحة البصيرة. شاعرة متمكنة ومقتدرة، تنتمي إلى المدرسة الأوسية، نسبة إلى أوس بن حجر. ذاع صيتها بمراثيها لأخيها صخر، أجمع أهل العلم بالشعر أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها.

       نحن بصدد "تماضر" من الزمن الراهن، شخصية جزوعة منهارة، مظهرها يوحي بالقهر والفقر. لباسها أسود كدلالة على قتامة زمنها ، حليقة الرأس، تكسو محياها علامات الأسى والحزن. محطمة من الداخل حتى لكأنها بقايا امرأة. <<آه يا تماضر، سرقوا الكحل من عينيك وابتسامة الصباح... حليقة الرأس... لابسة الصدار السواد تسرحين ببصرك بين الغدو والآصال عبثا لانبلاج الصباح.>>[12] وبالرغم من يأسها ولا أملها، إلا أنها استرجعت بعضًا من كرامتها، واستجمعت قليلاً من قوتها واقتربت من غريمها<< (تتقدم من الجمهور) آه عليكم يا أصحاب العمائم والعقال. عرائس هذا الوجود أنتم... ديس العدل في ربعكم بالمجان، وتكرشت بطون السادة من دمائكم، وأصبحت المبادئ كلمات جوفاء تتراقص في قعر زجاجة حمراء بين فخذي مومس شمطاء تلعب بعقولكم لحساب زبنائها اللئام.>>[13]

       لقد تحول المسرح إلى محاكمة للجميع، طرفاها المدعي: "تماضر" باعتبارها رمزًا للنخوة العربية المُفتقَدة،  والمدعى عليه: الجمهور القابع بلا حركة في مقاعده الوثيرة كناية عن الحاكم العربي العاجز والعاض بنواجذه على كرسي الحكم. <<أسيخوا السمع إلي.. همست لكم.. تكلمت إليكم.. صرخت فيكم.. وما تململتم عن كراسيكم... أمختومة هي ألسنتكم على بعضكم بالفرقة والشقاق (تسقط على الأرض لتتحول إلى فاطمة الممثلة في الفرقة).>>[14] في لحظة يأس تنهار الشخصية المسرحية "تماضر" فاقدة الأمل في التغيير، لتتخلص منها الممثلة فاطمة معبرة عن فخرها بمقاومة الاحتلال <<فاطمة: شرف لي بأن أكون أقدم سجينة. واصف: لقد أبليت البلاء الحسن في سجنك، إنك رفعت رأس المرأة الفلسطينية عاليا بصمودها وإصرارها على موقفها. فاطمة: إذا سيرحل الاحتلال ويخلد الشهداء في كل البقاع والأمصار... ساعتها يعزف نشيد الانتصار وتزغرد النساء في كل الديار.>>[15] في إشارة إلى فاطمة برناوي أول سجينة فلسطينية، وسناء محيدلي المغربية شهيدة جنوب لبنان، والمُقاوِمَةِ ليلى خالد حاملة السلاح في وجه الاحتلال.

 

4- الكتابة الإخراجية عند محمد فرح

    لاعتبارات منهجية، كان لا بد أن أستهل هذه القراءة بمدخل عن مفهوم العرض التجريبي، لأن قراءة نص "تماضر ومعزوفات للاجئين" تحيل على العرض، وتستحضر شروط الإخراج. وتشهد العديد من التجارب في راهنية المسرح المغربي أن العديد ممن يجمعون بين التأليف والإخراج يُخرجون نصوصهم التي كتبوها بأيديهم وكأنها لمؤلفين آخرين، كلاهما يلغي الآخر. وفي حالة "تماضر ومعزوفات للاجئين" فنحن بصدد توافق وانسجام بين محمد فرح المؤلف ومحمد فرح المخرج كما تؤكد ذلك هندسة البناء الفني للنص، وليس من المبالغة في شيء أن أتحدث أيضًا عن محمد فرح الممثل بحكم معرفتي بتجربته الميدانية الرائدة في مسرح الهواة.

   لقد فرض عليّ النص أثناء قراءته شرط مشاهدته ذهنيا في الخشبة الدرامية. وهي حالة نادرًا ما تحدث في قراءة المسرحيات. ولا شك أن السبب في ذلك يعود إلى تقليص ما هو درامي لحساب ما هو مسرحي.

     إننا بصدد رؤية حداثية في الكتابة الإخراجية تتبدّى تجلياتها الفنية في العناصر التالية:

 أـ   أن لغة النص ولئن كانت أدبية كلامية، فهي مشحونة بحمولة الحركة والفعل.

 بـ- أن المسرحية تحمل مقترحها الدراماتورجي  والسينوغرافي.

جـ- أنها كُتبت في الأصل للتجسيد الركحي، لأن تقنية المسرح داخل المسرح تستوجب القابلية الركحية.

دـ حضور الفرجة على الرغم من الطابع التسييسي على أساس أن الارتجال يخلص الممثل من الخطاب لينخرط في اللعب المسرحي.

هـ- النزوع التجريبي في النص الذي تجاوز الحالة التي يضطر فيها المخرج لإعادة صياغة نص المؤلف بحثًا عن شرط اللغة المسرحية.

 

هوامش:

  1. جوليان هلتون، نظرية العرض المسرحي، ترجمة نهاد صليحة، هلا للنشر والتوزيع- الجيزة (جمهورية مصر العربية) سلسلة المسرح 13، ص31

2 - قدمتها جمعية الرواد للمسرح والثقافة من الدار البيضاء في المهرجان الوطني 24 لمسرح الهواة بالرباط سنة...؟       

3- بول سارتر، الأدب الملتزم، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب-بيروت، 1965     https://www.marefa.org

4  - محمد فرح، تُماضر ومعزوفات للاجئين وعرس الحجارة- احتفالان مسرحيان، مطبعة وراقة بلال-فاس، ط1-2019،

      ص15

5- نفسه، 47

6-  نفسه، ص13  

7- نفسه، 48

8 - د. حسن المنيعي، المسرح والارتجال، عيون المقالات، ط1- 1992، ص25

9- محمد فرح، تماضر ومعزوفات للاجئين، مرجع سبق، ص48، 49

10- نفسه، ص25

11_ نفسه، ص 30

12- نفسه، ص14

13- نفسه، ص 14

14- نفسه، ص15

15- نفسه، ص16

 

 

العلم الثقافي - الثلاثاء 20 إلى الأحد 25 يوليوز 2021 الموافق من 9 إلى 14 ذي الحجة1441

 

Loading...