قراءة في المقالة النقدية – التنظيرية:

  – تَناسُجُ ثقافاتِ الفُرجة في مِحكِّ التّفكيرِ العابِرِ للحُدود..

  – من يخافُ التّناسج؟  للدكتور خالد أمين

  – مشروعُ قراءةٍ جديدةٍ لتُراثِنا الْفُرجوي من مَنظورٍ تَناسُجي

                                                 د.عبد الرحمن بن إبراهيم

                                        

  • قراءة في العنوان:

   تجربة خالد أمين في النقد المسرحي تجسد تحولاً نوعياً في راهنية المشهد الثقافي المغربي والعربي، وتمثل قيمة مضافة على مستوى الجهود التنظيرية التي شكلت وما تزال، رافداً معرفيا في مجرى التنظير الذي تشهد راهنيته بتحولات متسارعة، ومستجدات لا تفتر تستوقف الباحث، وتُسائل الناقد، وتلاحقه بأسئلة إشكالية قائمة. وهو ما يضع الباحث أمام مسؤولية تاريخية تُلزمه بضرورة البحث عن موطئ لتأكيد الذات في مواجهة الآخر.

   يحتل الدكتور خالد أمين مكانة مرموقة في خريطة النقد المسرحي المغربي والعربي على السواء، اعتباراً لمنجزه النقدي الدؤوب، وحضوره المؤثر، وإشعاعه الثقافي … والمتتبع لمسير اجتهاداته المتواترة يتبين بأن الأمر يتعلق بمشروع معرفي موضوعه: مسرح المثاقفة، وأداته: الفرجة المسرحية. وهو ما يقتضي منهجيا الوقوف عند دلالات مجموعة من المصطلحات ذات خلفية معرفية وحمولة ثقافية، ما انفكت تؤثث خطابه النقدي بحكم تواردها المنتظم، وباعتبارها آليات اشتغال تؤسس لجهاز مفاهيمي فاعل، وتمثل مفتاحاً لرصد مقومات رؤيته المعرفية، ومدخلاً إلى رسم معالم أفقه التنظيري: تثاقف، مثاقفة، ثقافة الفرجة، الفرجة، الفرجوي، تناسج، التفكير العابر للحدود، النقد المزدوج، الهجنة، الهجنة المابينية، التهجين … ومن ثمة، فقراءة العنوان يجب يتم في سياق صيغة السؤال الإشكالي التي أكسبه دلالة مركبة. وأية محاولة التماس إجابة شافية، تقتضي منهجيا طرح سؤال مضاد، ستتمخض عنه – لامحالة- سلسلة أسئلة مضادة: لماذا الخوف من التناسج،؟ ومن الذي يخافه،؟ وما هذا التهديد المحتمل الذي بمقدور التناسج أن يحدثه،؟ ولماذا الخوف،؟ وما دواعيه،؟ وما مبرراته.؟  

  • مسرح التثاقف، وثنائية المركز والهامش:

   يستهل خالد أمين مقاله بالتلاقح القسري الذي جرت أطواره إبّان ما يسمّيها “الهجمة الاستعمارية” التي أحدثت “صدمة الحداثة” بتعبير الشاعر علي أحمد سعيد (أدونيس)، وهي التي تولّدت جراءها اختيارات اضطرارية تمثلت في <<نزعة استغلالية صاحبت “مسرح المثاقفة” لن تزول إلا بزوال تلك الهجمة الاستعمارية، أو ما يسميه البعض بالاستعمار الجديد>>. وزاد في تكريس الثنائيات الإقصائية التي سادت حينا من الدهر في أدبيات الخطاب النقدي العربي الحديث: الأنا- الآخر، غرب- شرق، مركز- هامش، ذكورة – أنوثة، مسرح- ما قبل المسرح. وهو ما ترتب عنه بالنتيجة سؤال إشكالي: <<كيف يمكن مقاربة صيرورة التحولات التي تقع للفرجة جراء ترحالها من ثقافة إلى أخرى،؟ وكيف يمكن مقاربة هذه الحركة في ظل وضع استعماري.؟>>

الرواد المسرحيين العرب الأوائل ساروا منبهرين ومتهافتين في اتجاه هجنة ترتب عنها نسخ النموذج المسرحي الغربي باعتباره “غنيمة حرب”. وهو ما يتجلّى بكل وضوح فيما أشار إليه رافعة رفاعة الطهطاوي (1801-1873) بقوله: << إن مخالطة الأغراب، لاسيما إذا كانوا من أولي الألباب، تجلب للأوطان المنافع العمومية… والبلاد الافرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر إنسان أنها تجلب الأنس وتزين العمران. والتياترو عندهم كالمدرسة العامة يتعلم فيها العالم والجاهل… ويتعلقون بالحرية حتى أنهم لا تطول عندهم ولاية ملك جبار، ولا وزير اشتهر بينهم أنه تعدّى مرّة وجار.>>1

   وعلى الرغم من إشارة الباحث الدكتور خالد أمين إلى سعي هؤلاء إلى <<تلقٍّ منتج محكوم بإعادة مخالفة لما سبق، تلقٍّ مبني على الاستيعاب والتّجاوز في أفق إنتاج المختلف ضمن مسارات التأصيل.>> فإنّنا نتساءل:

– هل نجحت محاولات إنتاج المختلف،؟ وهل نملك مشروعية الحديث عن “مختلف”،؟ وإذا جاز لنا الإقرار بذلك، فما مفهوم هذا “المختلف”.؟

– كيف يمكن لمسرح ينتج في واقع تابع أن يكون غير تابع.؟

   إن المختلف في مفهوم د. خالد أمين يتبدّى أساساً في الهجنة، وهو القائل: <<لم تعمل الهجنة على نسخ النموذج الأوربي، بل استفزته وأربكت ادعاءه الاكتمال في الوقت نفسه الذي ابتُكرت فيه طرائق مختلفة لتكراره بشكل مختلف.>> فما هي هذه الطرائق المختلفة، وإلى أي مدى نجحت الهجنة في إحداث اختراق في المنظومة المسرحية الغربية.؟

في محاولة التماس جواب، أستحضر تجربتين رائدتين في المسرح العربي: أولاهما تجربة مارون النقاش في لبنان، وثانيهما نظيرتها في المغرب للطيب الصديقي، باعتبارهما نموذجاً حيّا لفعل البحث عن أفق.

  • حالة مارون النقاش (1817- 1855)

   يروي رحالة أوربي، وهو “ج. بيلزوني G. Belzoni أنه شاهد مسرحيتين في القاهرة سنة 1815، <<وقد عُرضت كلتاهما في حفلي زفاف. ويذكر بيلزوني أنه في الحفل الأول أخذت الفرقة أماكنها بكثير من النظام، وهم يشكلون مدرجاً مستديراً؛ حيث كان الرجال معزولين عن النساء. وبعد الرقص جاء العرض، وكان موضوعه مستقًى من أحداث الحياة الاجتماعية، مثلما كان يحدث عندنا، لكنه يتسم ببسطة الأفكار العربية.>>2. وهو ما يفهم منه أن الفعل المسرحي متمثلاً في الهزليات القصيرة التي كان يعرضها “المحبظون” ظلت حاضرة ومستساغة في البلاد العربية لوقت طويل حتى بعد الحملة الفرنسية على المشرق العربي. <<وحتى بعد إنشاء “مسرح يعقوب صنوع” ذي النمط الأوربي عام 1810، استمرت المسرحيات الشعبية تُعرض داخل القاهرة وخارجها؛>>3 بل إنه كثيراً ما كان يستعين بالمحبظين في عروضه المسرحية. وبدل السعي إلى تطوير الشكل المسرحي العربي الأصيل من خلال الانفتاح والاحتكاك بالمسرح الأوربي، سعى مارون النقاش عن قصد “إلى غرس التقاليد المسرحية الأوربية. كتب ملهاته الأولى “البخيل” متأثراً بـ “موليير Molière، ونقل شكل البرنامج المسرحي الأوربي إلى بيروت عام 1847.

<<لقد كان مارون النقاش يمثل نموذجاً سيئاً للهجنة بحرصه على أن يقطع كل صلة بالمسرح العربي، وعدم إشارته نهائيا إلى أدنى إشارة إلى تأثره بالتقاليد المسرحية العربية رغم معرفته بها، وإلمامه بكل ملامحها. وكان يلجأ اضطراراً إلى مشاهد من المسرحيات الشعبية كنوع من التسلية الخفيفة فيما بين فصول مسرحياته>>4. وذات الموقف ينسحب على الكاتب المسرحي السوري حبيب أبلا مالطي الذي تنكّر هو الآخر للأشكال الاحتفالية الموروثة، <<ولم يعترف بالأثر الشعبي في مسرحه. (كتب مسرحية بعنوان “الأحمق البسيط” سنة 1855)5.

  • فعن أي تأصيل يجوز الحديث عنه في الوقت الذي يتم فيه التنكر للأشكال الاحتفالية الموروثة.؟
  • وما سرّ هذا التهافت على النموذج الغربي في الفن المسرحي.؟

بـ- حالة الطيب الصديقي (1939-2016)

من باب الإنصاف نعترف للطيب الصديقي بمنجزه المسرحي المتميز الذي ينفرد به على مستوى العالم العربي. وتتبدى تجلياته في ثلاثة اختراقات أساسية:

  • تطويع النص التراثي العربي للقابلية الركحية.
  • ابتكار تقنيات مسرحية من صميم المادة التراثية المغربية والعربية.
  • استقطاب قاعدة جماهيرية عريضة، وفي المغرب والبلدان المغاربية وبلاد المشرق العربي.

   وعلى الرغم من هذا المنجز، فقد نالت تجربته نصيباً معتبراً من النقد اللاذع. وتكفي الإشارة إلى ما أورده الدكتور حسن المنيعي: <<لقد أتخم الطيب الصديقي الجمهور بفرجات عديدة، وجعله يساير مغامراته وتجاربه التي تستلهم تقنيات الغرب وأشكاله الدرامية (المسرح العبثي والوثائقي والاستعراضي…)؛ ومع ذلك فإننا نؤاخذه نظراً لما ينطوي عليه مسرحه من “مغالطة” لأنه لا يتعدى جانب الإبهار الفني، ولا يبدو سوى متعة جمالية كثيراً ما تخلو من التنوير الفكري والمضامين الاجتماعية التي تنتقد الأوضاع، وتتلفظ بجوهر الحقيقية.>>6

الموقف النقدي للناقد الدكتور حسن المنيعي نابع من قناعة مؤداها أن جيل المسرحيين الرواد لم يسع إلى تأسيس مفهوم جديد لهجنة مابينية في ظل “مسرح التثاقف” الذي يكرس التبعية للمركزية الأوربية، علماً بأن المسرح الغربي <<كان يعيش مرحلة مخاض تجريب يروم إحداث قطيعة مع المسرح الكلاسيكي. وهو ما أوقع مسرح الصديقي فيما يصطلح د. حسن المنيعي في “البهرجة الفنية” التي تكشف عن الفهم المغلوط واللاحداثي للمماسة المسرحية في تعاملها مع الأشكال الاحتفالية الشعبية.>>7 وسوف يستدرك الطيب الصديقي الموقف بتبني رؤية إيجابية لهجنة تتمثل في نقل الحلقة إلى البناية المسرحية باعتبار المسرح المغربي مجالا للهجنة. <<فهو يتموضع في الحد الفاصل بين الشرق والغرب، بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة، بين الفرجة الشعبية المفتوحة والبناية المسرحية المنغلقة على ذاتها.>>8 هذا التموضع بين ثقافتين متعارضتين شعبية مغربية، وعالمة غربية جعلت هامش الهجنة بفعل التأثير الاستعماري محشوراً في زاوية ضيقة، تتيح فقط إمكانية الانتقال من فضاء مفتوح إلى آخر مغلق، وهو ما يعتبره د. خالد أمين << مراوحة إيجابية بين المتعارضات في حدود أنها تقيم جسوراً بين الثنائيات المتعارضة بواسطة الوصل بينهما.>>9 ولعل ذلك هو المقصود بقوله: << صحيح أن الخلاص لن ينبعث من رحم ذات الإبستيمولوجيا التي خلقت الحاجة للانفكاك، ولكن أيضاً المقاومة لن تنبعث من خارج علاقة السلطة.>>10 بهذا المعنى فـ “مسرح المثاقفة” ولئن كان يرنو إلى إنتاج الاختلاف، فإنه يبقى أسير الوجه الآخر لإيديولوجيا إقصاء الآخر التي مارستها المركزية الغربية على ما تعتبره “هامش”. وقد سعى الطيب الصديقي في هذا الاتجاه ينشد إنتاج مسرح هجين يزاوج ما بين الأنا والآخر من خلال التأسيس لصيغة مسرحية مستقلة تستوحي من التراث سواء كان تاريخاً أو شكلاً مسرحياً. وهي محاولة تؤكد على الأقل حيوية هذا المسرح، ودليل على ثرائه وعلى قدرته على التعايش، ومواكبته للتحولات في الزمان والمكان. لقد ولدت التجربة الرائدة بحق للطيب الصديقي قناعة تدعو إلى اعتبار مسرحه “مسرح حامل لأطروحات ثقافية وفكرية”11،. للاعتبارات التالية:

  • أنه تجاوز الثنائية المزمنة: شكل المسرح الغربي في مقابل شكل ما قبل المسرح المحلي من خلال نقل هذا الأخير إلى البناية المغلقة، وهو ما يجوز اعتباره خروجا عن المألوف المكرس.
  • <<تحويل العرض إلى “حدث احتفالي”، أو فرجة شاملة تجمع بين السرد، والحكي، والارتجال، والغناء، والأقنعة، والدمى، والألعاب البهلوانية، وجماليات اللباس، والديكور المتنقل الذي يؤسس فضاءات لتحرك الممثلين.>>12
  • استقطاب قاعدة جماهيرية متعطشة للشكل المسرحي المحلي المتمثل في “البساط” و “الحلقة” باعتبارهما مسرحاً مغربياً ذا طابع تعليمي يقف على قدم المساواة مع غيره من المسارح، بفضل لعب مسرحي ينهض على بلاغة الجسد، والإثارة البصرية، وإشراك الجمهور. وهو ما يمثل تحدياً قائماً للمركزية الغربية التي لطالما اعتبرت <<الهوامش الفرجوية المحايثة التي كانت بالأمس القريب مجرد روافد تصب في المجرى الرئيس لنهر المركزية الغربية.>>

3- مشروع تناسج ثقافات الفرجة:

ما هي أطروحة “مسرح التناسج”،؟ وهل هو مشروع بديل لـ “مسرح التثاقف.”؟

ما دلالة مفهوم التناسج:؟

نشير، – وللتذكير- أن الناقد والباحث الدكتور خالد أمين سبق أن ترجم كتاب “سياسات تناسج ثقافات الأداء” للناقدة الألمانية فيشر ليتشه <<تدافع عن فكرة أن مفهوم تناسج ثقافات الأداء أكثر جدوى من مفهوم مسرح المثاقفة. وترى أن مجاز التناسج مناسب بشكل كبير؛ حيث إن الخيوط تتشابك مع بعضها البعض وتُنسَج على هيئة قطعة قُماش تتكون من العديد من الخيوط، حتى أنه يتعذر على المرء بالضرورة ملاحظة كل خيط منها على حدة. “فالخيوط تُصبغ وتُنسج لتشكل أنماطاً لا تمكن الرائي من معرفة أصل هذه الخيوط. وانطلاقا من هذا الاقتباس، فمجاز التناسج لفيشر يركز بقوة على عمليات النقل، وإعادة التركيب الجمالية مبديا إياها كعمليات تكاد تكون أساسية لتناسج ثقافات الأداء.>>13

   ومن وجهة نظر الدكتور خالد أمين، فإن الأمر لا يتعلق بنظرية جديدة، بل بمجرد <<أفق بحثي يعنى بالتفكير في حركية الفرجة وتحولاتها، انطلاقاً من السؤال الإشكالي: كيف تستجيب الأنساق المعرفية لصيرورات التناسج.؟>>

   يرنو “مسرح التناسج” إلى قراءة جديدة تراثنا الفرجوي من منظور تاريخي، تستحضر

<<التبادلات المضمرة والمعلنة التي أثّرت في حياكة نسيجنا المسرحي دون مزايدات تروم أسطرة “فرجة خالصة”. فمن منظور التناسج، لا توجد ثمة فرجة خالصة ناتجة عن ذات سرمدية، أو غير قابلة لسيرورة الاحتكاك والتبادل مع فرجات أخرى،>> اعتباراً لتمازج الأجناس وتعاقب الأجيال وتحول الذهنيات. وهي دعوة للارتقاء من الإيديولوجي الذي يكرس المتشابه إلى السوسيولوجي الذي ينتج الاختلاف.

   تنهض أطروحة التناسج على الثوابت التالية:

  • إعادة الاعتبار إلى الهوامش الفرجوية المحايثة، من تفكيك منظومة المركزية الغربية القائمة على القطبية الثنائية: المركز- الهامش.

بـ- الإقرار باختلاف الثقافات الفرجوية، وفي ذلك اعتراف بـ “الآخر” والإنصات له.

جـ- انفتاح التناسج على الاختلافات لفهمها ضمن سياقات تحققها التاريخي، وبمشاركة الفاعلين الرئيسيين المنحدرين من تلك الثقافات.

د- الاحتفاء بالتنوع الفرجوي وخصوصياته الثقافية.

هـ- إبراز تحولات الفرجة في ترحالها المستمر عبر الأزمنة والأمكنة.

و- اقتفاء أثر صيرورة الاختلافات القائمة بين الأنساق المعرفية المرتبطة بمجالات فرجوية مختلفة.

   إن الدعوة إلى بناء صرح “مسرح التناسج” على أنقاض “مسرح التثاقف” تهدف في واقع الأمر إلى إنقاذ المسرح الغربي من الانكفاء على الذات، وتحريره من أغلال التمركز الأوربي الذي حوّل الثقافة الغربية في عمومها إلى قلعة منيعة يتآكل من داخلها. وتخليصه من أسار أناه المَرَضية المتمثلة في النظرة الاستعلائية المتجذرة في ذهنيته المتأصّلة، التي كرست النظرة الدونية للآخر. نظرة أحالت المسرح الأفرو- آسيوي – رغم حيويته وروحانيته التي تسمو بطاقة الممثلين، وتُوحِّد وجدانهم في نطاق الفرجة المسرحية،- إلى مجرد فضاء طقوسي بدائي ما قبل مسرحي. وهو الأمر الذي حذا بـ باتريس بافيس Patrice Pavis إلى إعلان ندائه الاستعجالي: <<إذا كان هناك خطاب يجب أن نسعى إلى تجاوزه، فهو التمركز الأوربي المنكفئ الذي جعل من أوربا حصنا منيعاً ضداً على أي شكل من أشكال المثاقفة مع غيرها.. لقد كان استشراف المثاقفة خارج مدار المركزية الأوربية رهاناً استراتيجيا لحل مشاكل المسرح المعاصر.>>

  • فهل سار تخطى المسرح الغربي حاجز “الأنا” في اتجاه “الغير”.؟
  • المركزية الغربية والمنظور الاستشرافي للفرجة القادمة من الآخر

لقد أقر النقاد والمسرحيون الغربيون بقوة “مسرح الآخر” (الهامش) المسرح الآسيوي على الخصوص. وفي ذلك اعتراف ضمني بحالة اختناق “مسرح الأنا” في (المركز)، وبالحاجة إلى نَفَسٍ جديد. واعتبروا رحلتهم إلى الشرق، وانجذابهم إليه <<رحلة التعلم والنهل من خبرات الجسد الفرجوي الشرقي. وخلفت اللقاءات الأولى الكثير من الدهشة من قوة أدائه.>>

وقد تساءل الدكتور خالد أمين بخصوص انفتاح المسرحيين الغربيين على المسرح الآسيوي:

  • أهو تمرد (من الداخل) على المركزية الغربية، وبنيات التفكير المثالية/الماهوية المرتبطة بها.،؟

بـ- أم هو يا ترى اتساع لمساحات المركزية الغربية لاحتواء الآخر ومحو اختلافه.؟

  • حالة المخرج بيتر بروك Peter Brook مع الفرجة الهندية

نهل المسرحيون الغربيون من المسرح الأسيوي، ومن مسرح تجارب “النّو” و “الكابوكي” اليابانيَّين، ومن جماليات الأداء الراقية، ومن مسرح “الأقنعة الإفريقي” لاقتراح دراماتورجيا جديدة. فقد سعى فسيفولد ماير هولد وبرتولد برشت إلى تحقيق علاقة جديدة بين الخشبة والصالة اعتماداً على أشكال مختلفة من المسارح الأسيوية الشرقية. وسار بيتر بروك Peter Brook في اكتشاف التقاليد الفرجوية الهندية. غير أن إنتاجه للملحمة “ماهابراطا” أثار عليه نقاشا حاداً وجدلاً واسعاً <<عن مدى فراغ المساحة التي تمت فيها إعادة صياغة ماهابراطا بحمولتها الثقافية والدينية.>> وتَعَرَّض لنقد شرس من الباحث المسرحي Rustom Bharucha الهندي الذي رأى في إنجازه عملاً فاشلاً لأنه عزل الملحمة من النص التراثي العريق، ومن التمظهرات الفرجوية المرتبطة بهذه الملحمة على اختلاف المدارس الهندية.

بـ- حالة المخرج البريطاني تيم سابل Tim Supple مع التراث النثري العربي:

   في إطار الثقافة المسرحية المتسلطة، لم تخرج محولة تيم سابل عن محولة قراءة ألف ليلة وليلة من منظور غربي استعلائي لكل ما ينتمي إلى “الهامش”. <<ورغم أنه سعى في اتجاه فهم الآخر وفهمه في نطاق اختلافه، والرغبة في تعميق اشتغاله من خلال سيرورة العمل مع فنانين عرب. ورغم ذلك، لم يتمكن من تجاوز منطق الهيمنة المعهود في أعمال موكله بيتر بروك. فهو الذي حدد معالم المنتوج النهائي، وقدمه للجمهور الغربي في شبكة المهرجات الكبرى في أوربا وأمريكا. إنه هو الذي أعاد الصياغة الدراماتورجية لحكايا حنان الشيخ، وهو الذي قرر في نهاية المطاف ما يمكن عرضه، وما ينبغي حذفه.>>

 

لقد أبان المسرح الغربي- من خلال تجربتي بيتر بروك وتيم سابل كنموذج – عن عجز الأوّل عن إدراك أسرار جماليات المسرح الأسيوي، وفشل الثاني في النفاذ إلى أبعاد الحمولة الثقافية للتراث النثري العربي. إن الأمر يتعلق بمأزق معرفي في قراءة إبداعات الآخر، قراءة موضوعية ونزيهة، متحررة من المنحى الاستشراقي والفلكلوري للكثير من التجارب المسرحية الغربية التي اعتمدت بعض الصيغ الفرجوية القادمة من الآخر: الشرقي/الجنوبي. ممّا يفهم منه أن الرحلة المسرحية الغربية إلى الشرق/الجنوب، وتبني الأشكال الفرجوية الغير الغربية تندرج في إطار “المثاقفة المسرحية المهيمنة” التي تلبي حاجة مستهلك غربي متعطش لكل ما هو مختلف، في إطار “تسليع” خام الثقافة المستوردة، وتحويلها إلى محض بضاعة معروضة للاستهلاك بفعل سيرورة العولمة.

  • مفهوم مسرح المثاقفة وسؤال الهوية الثقافية

   هناك علاقة جدلية تربط بين الثقافة والهوية. فكلاهما يستدعي الآخر في تحديد المفهوم. ومن غير الممكن تحديد هوية شخص، أو شعب، أو أمة من دون استحضار الخصوصية الثقافية. وفي المقابل فإن تعريف الثقافة لا يكتمل سوى تحديد هويتها المحلية. ولنتفق بادئ ذي بدء أن الثقافة بالمفهوم الأنثروبولوجي ليست مرتبطة بالعرق، فهي شيء نكتسبه ونتعلمه، ونساهم في إنتاجه وتطويره وتجديده. نتوارثه ولا نحمله في جيناتنا. هذا التكامل بينهما لا يلغي القول بأن الثقافة متحولة باستمرار بالرغم من أصولها القائمة في الذهنيات؛ في حين أن الهوية المتمثلة في اللغة، والقيم، والعقيدة الدينية ثابتة وغير قابلة للتحويل. <<غير أن الكتّاب العظام الذين تناولوا بدءاً الثقافة بدءاً بهردر مروراً بنيتشه، ثم أدورنو وغرامشي وإلياس ووليامز لم يشكوا في النهاية بأن الثقافة كانت مسألة سياسية. ولم يتردد بواس او مالينوفسكي أو ميد أو ليفي ستراوس من مخاطبة قضايا سياسية كبرى من خلال الأنثروبولوجيا حتى الأنثروبولوجيون الذين اعتراهم الشك يجدون أن الحوار المسيس الحالي عن الثقافة قد يستثير ردود أفعال غير هنية عن ما تتضمنه النظرية الأنثروبولوجية.>>14

   أما مفهوم “المثاقفة” Interculturalisme في منظور الدكتور خالد أمين فيدل على <<التفاعل بين ثقافات مختلفة في التأثير والتأثر، وفي التمثّل والتبادر (صيغة “مُفاعَلَة” في اللغة العربية تفيد المشاركة). ومعلوم أن “المثاقفة” هي الاقتباس المتبادل بين الثقافات؛ وحسب المعجم الجامع، فإن “المثاقفة تساعد على فهم الآخر”، مثلها مثل “التّثاقف” Acculturation. والمثاقفة، في أبهى تجلياتها، هي السعي نحو الانفتاح على الآخر دون الانصهار في ثقافته، وإبراز الذات دون انغلاق مطلق. والآخر، في نهاية المطاف، هو “الذي يساعدني على جمعي لذاتي وتثبيتي، ومحافظتي على إبقائي داخل هويتي” كما يؤكد ذلك بول ريكور وآخرون.>>15 وعلى الرغم من التباين الظاهر بين ثقافة شعب وثقافة آخر، فالوقائع تؤكد أن التبادلات الثقافية بين الجماعات البشرية لا تعترف بأية حدود أيا كان نوعها. ويورد د. خالد أمين كمثال <<التقاليد الفرجوية الشرقية في المسرح الإغريقي القديم (بالرغم من صمت التاريخ المسرحي الأوربي بشأن هذا التأثير). أكثر من هذا، يذهب بعض الباحثين في تاريخ المسرح إلى أن طقس ديونيسوس ليس يوناني الأصل؛ بل إنه جاء من الشرق الأقصى. كما أن الحداثة المسرحية الغربية قامت هي الأخرى على التفاعل مع ثقافات الفرجة غير الأوربية.>>16 هذه الفرجات العابرة للحدود هي ما دعت د. خالد أمين إلى تبني مصطلح “بين- ثقافات”، وترجمته لـ Intercultural بهدف إبراز التفاعل والتموضع بين ثقافتين أو أكثر. وإذا كان من الصعوبة بمكان رسم حدود فاصلة بين مفهوم المثاقفة الذي يتحدد في صورة ذهنية تجريدية، وبين مصطلح مسرح المثاقفة الذي يقترن بالممارسة العينية في الواقع، فإن لهذا المصطلح قوة بفعل تأثيره على الواقع، وقدرته على اكتساب دلالات عديدة ومتناسلة على مستوى التلقي، من مثل: التأثير، التأثر، الحوار، الرفض، القبول، الانفتاح، التمثّل… هو ما نلمسه على مستوى القراءة النقدية التي تهتم بما تقترحه الفرجة بالدرجة الأولى، وليس بمدى تطابق الفرجة على مقاس تصور مجرد. فقد اقترن المسرح الغربي بدلالة الرفض: (رفض الآخر)، التنكر: (تغيير عادات وتقاليد البلد المستعمَر)، الإبادة : (يجب أن يهتز الشرق من أجل العودة إلى حاضرة الغرب)، التبعية : (إخضاع الآخر بالقوة لإرادة الأنا)، التدمير : (تفكيك المجتمعات الأصلية واقتلاع الصناعة المحلية)… وفي المقابل، فقد قدم المسرح العربي صورة مشرقة عن مسرح المثاقفة باعتبار الفرجة فناً عابراً للحدود، وباعتبار مسرح المثاقفة أكثر من جنس فني. وعلى عكس ما فعله المخرج الإنجليزي تيم سابل بـ ألف ليلة وليلة، فإن المخرج سليمان بسام (كويتي الأصل بريطاني الجنسية) قدم أعمالا مسرحية رائعة عابرة للحدود. فقد تعامل مع شكسبير من خلال اشتغاله على نص “هاملت”، وجاء العرض وكأنه مستوحي من صميم واقع عربي مثخن بالجراح، مكلوم بأوجاع المواطن العربي. ولم يكن من خيبة أفق انتظار المتلقي بُدٌّ وهو يُواجه بعرض مسرحي يقدم هاملت بأساليب أدائية/فرجوية “شرقية”؛ حيث بدت شخصيته (هاملت) مهمومة بـثقافة “الآخر”، مثقلة بآلام “الهامش”.

تتأسس رؤية الدكتور خالد أمين لمسرح المثاقفة والتناسج انطلاقاً من تجربة سليمان بسام كنموذج على:

أ- قدرة مسرح التناسج على استيعاب التقنيات المسرحية الغربية، وتوظيفها في رؤية إخراجية جذّابة مثيرة، ومحررة من الحمولة الإيديولوجية الإقصائية للمركزية الغربية.

بـ- أن الإشكالات المرتبطة بالمثاقفة والتناسج تكتسب دلالاتها حسب سياقات تحققها.

جـ- حتمية تغيير ذهنية المركزية الغربية، وإقناعها بضرورة إعادة النظر في لا جدوائية اجترار تصورات تجاوزتها الوقائع.

د- ضرورة تعميق الحوار جنوب- جنوب مسرحيا، في أفق فرض خصوصيته واختلافه في إطار الكوني الإنساني.

  • في الحاجة إلى دراماتورجيا هجنة مابينية

   بخصوص المسرح المغربي، يورد الدكتور خالد أمين مقولة لـ بول بولز Paul Bowles تختصر مسألة الإلغاء الذاتي المنجزة من لدن بعض المثقفين المغاربة: <<يتحدد اعتقادي الخاص في أن شعوب الثقافات الأخرى قد محقت ليس بسبب نتاجات حضارتنا إلى حد كبير؛ وإنما بسبب الاختيار اللاعقلاني لنخبها المتعلمة، والكف من ثَمَّ عن أن يكونوا ذواتهم والتحول إلى غربيين.>>17 وهو ما ترتب عنه بالنتيجة إقصاء الفرجة المغربية المحلية كالحلقة والبساط من حقل المسرح في صيغته الغربية المهيمنة، تماما مثلما تنكر مارون النقاش في لبنان، وأبلا مالطي في سوريا، ويعقوب صنوع في مصر للأشكال الاحتفالية الأصيلة ممثلة في المحبظين. ويجب التذكير في هذا الصدد أن <<الفرق المسرحية المشرقية السباقة إلى التأورب هي التي دفعتنا إلى تبني البنيات الفرجات الغربية بمعزل عن مسألة تمركزها.>>18

   بالنسبة للناقد خالد أمين، فالسبب يعود إلى كون العالم العربي يتواجد في وضع تخومي ملتبس: <<بين تقاليد لا تزال حاضرة بقوة حيواتنا الفردية والجماعية، ووعود حداثة لا يزال الجميع يتطلع إليها بإلحاح أكثر في زمن “ما بعد الربيع”. لذلك، فهو يقترح:

  • <<دراماتورجيا هجنة من حيث هي مزج بين تقاليد الأنا والآخر، ووصل بين الأزمنة، بل وتمثل لها في الآن نفسه. إنها تموقع بين البوابتين: “بوابة الشرق” التي ترفض الانسداد تماما، و”بوابة الغرب” التي تأبى أن تنفتح على مصراعيها.>>

بـ- اعتبار الهجنة مسار ثالث ما بين المسار التأصيلي الماضوي، والمسار الغربي التغريبي. إن اختيار أفق الهجنة يقتضيه واقع المسرح المغربي اعتباراً لموقعه في مفترق الطرق، مما يحتم عليه “هجنة مابينية” تتراوح ما بين الثنائيات: الأنا والآخر، الشرق والغرب، التقليد والحداثة.<<وهذا الأفق بالتحديد، هو مصدر تموقع مسرحنا في فضاء ثالث ما بيني (فضاء إبستيمولوجي، وبؤرة زمكانية للمثاقفة ضمن حدود الراهن.>>19

جـ- إبداع تفكير عابر للحدود، ونقد مزدوج للتأمل في مقتضيات التهجين، لتجاوز إعادة إنتاج صيغ الماضي التي أوقعت عديد من المنظرين والمؤلفين المغاربة والعرب في <<اغتراب في الماضي، يفضي إلى رقص مسعور حول ذات مفقودة. وتفادي اغتراب في التأورب الذي ينتهي بصاحبه فاقداً لاختلافه، ومراوحاً لذات أسئلة الغرب دون مساءلتها.

د- اعتبار مسرح التناسج مشروعاً مراجعاتيا منفتحاً على أصوات العالم. إنه أفق مغاير يسعى إلى إعادة المعني للهوامش المحايثة.

 

هوامش:

  • رفاعة الطهطاوى، الأعمال الكاملة: التمدن والحضارة والعمران، ط1، المؤسسة العربية للدراسات- بيروت، 1973، ص91
  • شموئيل موريه، المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط، ترجمة زكريا عبد الله، منشورات الجمل – بغداد، ط1-2014، ص 309
  • نفسه، ص313
  • نفسه، ص 322
  • نفسه، ص 320
  • د.حسن المنيعي، حول المسرح المغربي، مجلة الأقلام العرقية- بغداد، العدد6-1980، (العدد الخاص بالمسرح العربي المعاصر)، ص26
  • د.عبد الرحمن بن إبراهيم، الحداثة والتجريب في المسرح، أفريقيا الشرق- الدار البيضاء، ط1- 2014، ص70
  • د.خالد أمين، الفن المسرحي وأسطورة الأصل مطبعة ألطو بريس، ط-2002، ص96.
  • نفسه، ص96
  • د. خالد أمين، الهيئة العربية للمسرح. تناسج ثقافات الفرجة في محك التفكير العابر للحدود.. من يخاف التناسج.؟ إعلام الهيئة العربية للمسرح، بتاريخ 17-25-2020
  • د. حسن المنيعي، مقاربات مسرحية، قراءة في المسرح الغربي الجديد.. ومسرح الهجرة العربي، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة-سلسلة رقم 64، ط1- 2019، 57.
  • نفسه، ص63
  • تورستن جوست، الجماليات الأدائية لتناسج ثقافات الأداء. حول تحليل فيشر ليتشه لأداء أبراموفيتش “شفاه توماس” المقدم سنة 1975، وبعده النظري، تعريب هشام بوغابة، مجلة دراسات الفرجة، العدد المزدوج 9/10- 2019، ص195
  • آدم كوبر، الثقافة – التفسير الأنثروبولوجي، ترجمة صباح صدّيق الدملوجي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1-2012، ص349
  • د. خالد أمين، المسرح والهويات الهاربة – رقص على حد السيف، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة- سلسلة رقم 63، ط1-2019، ص74
  • نفسه، ص74
  • د. خالد أمين، الفن المسرحي وأسطورة الأصل، مرجع سابق، ص74
  • د. خالد أمين، مساحات الصمت غواية المابينية في المتخيل المسرحي، منشورات اتحاد متاب المغرب، ط1-2004، 44
  • ص48، نفسه

د.عبد الرحمن بن إبراهيم – المغرب