مقومات الفعل المسرحي في فن المقامة
دعوة إلى قراءة جديدة للرصيد المسرحي العربي الموروث
الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم
- هل عرف العرب المسرح البشري في العصر الوسيط؟.
- وإذا عرفوه، ما خصوصية هذا المسرح؟.
- هل كان العرب على علم بفن المسرح وهم يمارسون طقوسهم التمثيلية؟.
- وماذا عن النصوص التراثية التي توفرت فيها مقومات الفعل الدرامي كالمقامات على سبيل المثال لا الحصر؟.
هذه عينة من الأسئلة الإشكالية المؤجلة التي لم يتم الحسم فيها بعد، ولن يتأتى ذلك في ظل الاعتقاد السائد والخاطئ طبعا بأن الأدب العربي لم يعرف المسرح إلا في منتصف القرن التاسع عشر بتأثير من الآداب الغربية. وهو زعم كرسته آراء العديد من المستشرقين الغربيين الذين حسموا موفقهم بالقول بأن المسرح العربي وقف عند حدود مسرح خيال الظل. والوقائع كما تؤكدها البحوث العلمية الرصينة(1) تثبت بالدليل القاطع أن الأدب العربي عرف أشكالا من المسرح الحي.
وهنا يثار سؤال آخر:
- وحتى إذا سلمنا جدلا أن ما ذهب إليه المستشرقون وبعض النقاد العرب(2) صحيح، فما الذي منع ظهور مسرح بشري في العالم العربي في العصر الوسيط، أي في الوقت الذي كانت الحضارة العربية الإسلامية هي المؤثرة في محيطها. هل يعقل أن يستوعب العرب ثقافات وعلوم ومعارف البلدان المجاورة من دون أن يكتشفوا الأشكال المسرحية السائدة فيها؟.
في كتابها الرائد "ألف عام وعام على المسرح العربي" أشارت المستشرقة الروسية تمارا الكسندروفنا بوتينتيسيفا إلى ما كان يعرف بـ "السماجاتية" (الممثلون الكوميديون)؛«إنهم الممثلون والمقلدون والمهرجون الذين ذكروا في المدونات التاريخية العربية، والحكايات، واليوميات منذ أوقات بعيدة. كانوا في البدء يستعرضون فنونهم في أوقات الأعياد الإسلامية فقط. وبالتدريج توسع أفق عروضهم حتى اتخذ شكلا دنيويا اعتياديا بحتا. وإلى جانب العلماء والشعراء والموسقيين والمطربين، كان بلاط الخليفة في بغداد يضم الممثلين والمهرجين أيضا. وهناك قرائن تدل على أن الممثلين الكوميديين "السماجاتية" كانوا يقدمون عروضهم والأقنعة على وجوههم في بلاط خليفة بغداد، وعرفوا أيضا في مصر، وكذلك كان في بلاط البايات والدايات في المغرب العربي(تونس والجزائر) يضم الشعراء والموسيقيين والممثلين».(3)
ويؤكد الرأي عينه الباحث العراقي شيموئيل موريه بقوله: «لقد عرف المشرق العربي تقليدا مسرحيا مرتين: المرة الأولى عندما وصل المسرح الهلليني في أعقاب الفتوحات اليونانية والرومانية للشرق الأدنى عام 331 قبل الميلاد وما تلاه. إن ما تبقى من خرائب المسارح الهللينية والرومانية في سوريا ولبنان وفلسطين ومصر وشمال إفريقيا، وما بين النهرين لشاهد على الدور الذي لعبه المسرح في مجالي الدين والسياسة. أما المرة الثانية فكانت حين أثارت المسارح الأوربية ودور الأوبرا، بدءا من القرن التاسع عشر، انتباه وإعجاب الباحثين العرب ممن حاولوا تقليدها أملا في تبنيها وسائل للإصلاح الثقافي والاجتماعي والأدبي، لعلها تنجح في لإحداث نهضة في العالم العربي».(4)
وللاستدلال على اضطراب مواقف النقاد العرب وضبابية آرائهم بهذا الخصوص، نورد ما أشار إليه علي الراعي بقوله: «يمكن القول-بكثير من الوثوق-أن العرب والشعوب الإسلامية عامة، قد عرفت أشكالا مختلفة من المسرح ومن النشاط المسرحي لقرون طويلة قبل منتصف القرن التاسع عشر. وإذا مررنا بسرعة على الطقوس الاجتماعية والدينية التي عرفها العرب في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، والتي لم تتطور إلى فن مسرحي، كما حدث في أجزاء أخرى من الأرض، فسنجد ثمة إشارات واضحة على أن المسلمين أيام الخلافة العباسية قد عرفوا شكلا واحدا على الأقل من الأشكال المسرحية المعترف بها وهو: مسرح خيال الظل».(5)
وقد أحيط مصطلح "خيال" بكثير من الالتباس في الدراسات النقدية المسرحية العربية. فبالنسبة لعلي الراعي فـ "الخيال" هو الطيف؛ غير أنها اقترنت لدى عامة الناس بـ"الحكاية" التي تعني "التمثيلية". وقد ورد في رواية لإبراهيم بن أبي عون «أن مخنثا أعلن صراحة أنه إن هجاه جرير فسوف يخرج أمه في الحكاية. ووفقا لما ذهب إليه "الشابشتي" فإن دعبل قال لعبادة المخنث يوما: والله لأهجونك. فقال: والله لئن فعلت لأخرجن أمك في الخيال. ووفقا لما ذهب إليه ابن عاصم القيسي، قال دعبل لمخنث: والله لأهجونك. فقال المخنث: لئن هجونتي لأخرجن أمك في اللعبة(بفتح اللام)».(6) بهذا المعنى فـ "الخيال" يعني تمثيل. ولعل ما يثبت ذلك ورود بيت شعري في ألف ليلة وليلة يفهم منه أن "صناع الخيال" هم ممثلون يبدلون شكل لحاهم وألوانها وفق الأدوار التي يقومون بتشخيصها في تمثيلياتهم:
«تروح بلحية وتأتي بأخرى *** كأنك بعض صناع الخيال».(7)
وصانع الخيال في هذه الحالة هو الممثل. وبخصوص لفظة "اللعبة"(بفتح اللام دائما)، فمصطلح "لعب" يعني "التمثيل"، أي ما يفيد "المسرحية" بالمعنى المتداول حاليا. ولعل ما يؤكد أن الأمر يتعلق بالفعل المسرحي، العبارة المذكورة: «لئن هجوتني لأخرجن أمك في اللعبة»، أي حاكيت أمك في تمثيلية ساخرة. وهو ما يعني أن فعل "أخرج" يعني "مثل"(بفتح الثاء وتضعيفها). ويخرج ويخرجون(بضم الياء)، أي يقوم الممثل أوالممثلون بتمثيل مسرحية. وبناء عليه، فـ "الإخراج" هنا يقترن بدلالة تحويل "نص" إلى "عرض". وهو ما يتناقض تماما مع إصرار علي الراعي على القول بأن«التمثيل في "الخيال" كان يتم بالوساطة: عن طريق الصور يحركها اللاعبون ويتكلمون ويقفون ويرقصون ويحاورون ويتعاركون ويتصالحون نيابة عنها جميعا».(8)
وواضح إذن أن إنكار وجود مسرح بشري عربي من مستشرقين وعرب في العصر الوسيط إنما يعود إلى سببين:
أ- أن هؤلاء قرؤوا النصوص العربية في المسرح قراءة استندت إلى رؤية نقدية معيارية تستحضر النموذج الغربي من دون اعتبار للخصوصية الثقافية المحلية؛ وهو ما أفضى بالنتيجة إلى القطع بعدم معرفة العرب بفن المسرح. ومن هؤلاء المستشرق الألماني "جوستاف فون جرينباوم" القائل: «إن الإسلام السني لم ينجح في خلق فن مسرحي رغم معرفته بالثقافتين اليونانية والهندية، وهذا لا يعود إلى سبب تاريخي بقدرما يعود على مفهوم الإنسان في الإسلام، وهو مفهوم يمنع وقوع أي صراع درامي».(9) وقد فندت المستشرقة الروسية تمارا ألكساندروفا بوتينتيسيفا لحسن الحظ ادعاءات «النقاد المسرحيين في أوربا وأميركا الذين حين يعترفون بوجود شيء اسمه المسرح العربي فغالبا ما ينفون عنه صنعة العراقة والأصالة. فهم يعتبرونه نسخة من المسرح الأوربي، وإما أن يقتصر تاريخ المسرح الشرقي كله عندهم على مسارح اليابان والهند والصين وإندونيسيا، ويضيفون إليها في حالات نادرة بلاد فارس وتركيا. ولكن إذا عرفنا أن الأدب العربي العظيم لم يحظ باهتمام الباحثين إلا منذ وقت غير بعيد، فهل نعجب إذا ما بقي المسرح العربي عندهم، ولمثل هذه الفترة الطويلة "بقعة بيضاء" في تاريخ الثقافة العربية».(10)
ب- استناد هذا الطرح إلى إيديولوجية عنصرية ارتبطت تاريخيا بالحملات الاستعمارية
التوسعية، هدفها بث بذور الشك في الذات العربية، وزعزعة ثقتها في تراثها الثقافي الغني والعريق، وإضعاف إيمانها بالشخصية العربية وبطاقتها الإبداعية. وإلى أحادية النظرة التي تتجلى بكل وضوح في «أن المركزية الأوربية تخفي وراءها دائما التطبيق الميكانيكي للمقولات والكشوفات في تاريخ وثقافة البلدان الغربية على الظواهر الملاحظة في تاريخ وثقافة البلدان الشرقية».(11)
غير أن الأخطر والأفظع من هذين الموقفين الجائرين، هو تماهي المسرحيين العرب الرواد مع مقولات المستشرقين الغربيين، وتبنيهم – بالنتيجة- للشكل المسرحي الغربي –جهلا وكسلا- دونما اجتهاد في إدراك أسسه المعرفية وخلفيته الفلسفية ودواعيه الاجتماعية ومبرراته التاريخية. فكانت عملية إسقاط ظاهر هذا الشكل على واقع ثقافي عربي غير مهيأ لتقبله، في وقت كانت الأشكال الاحتفالية الدرامية العربية متأصلة ومتجذرة في الأوساط الاجتماعية. وهو ما يفسر ظاهرة النخبوية التي سادت في الممارسة المسرحية العربية على مدى عقود. وكانت من تداعياتها أن تحول المسرح إلى ترف تنشغل به فئة معزولة عن نبضات المجتمع وعن همومه اليومية؛ فكانت موجات التنظير التي سعت جاهدة ولاهثة لاستدراك خطأ الرواد من خلال عملية التأصيل (العودة إلى الأشكال الاحتفالية الأصيلة)، والتأسيس(كتابة درامية تستمد مادتها وموضوعها من صميم الواقع والتاريخ المحليين) (السلطان الحائر-شهرزاد- سليمان الحكيم- الفرافير- حفلة سمر من أجل 5 حزيران- الفيل يا ملك الزمان- مغامرة رأس المملوك جابر-امرؤ القيس في باريس-ابن الرومي في مدن الصفيح- عنترة في المرايا المكسرة- تراجيديا السيف الخشبي-البحث عن رجل يحمل عينين فقط- سرحان المنسي. جنائزية الأعراس...)
وإذا كان المسرح على الدوام في حاجة دائمة إلى كتاب مسرحيين أفذاذ، وإذا اعتبرنا أن تاريخ المسرح إنما هو تاريخ النصوص الدرامية، وإذا اعتبرنا كذلك أن الفن المسرحي لا يرتقي إلى مستوى التحقق الجمالي إلا على يد مخرجين عظام؛ فالحاجة باتت ملحة الآن أكثر فأكثر إلى قراءة جديدة للنصوص المسرحية العربية التراثية (المقامات-الإمتاع والمؤانسة-البخلاء-الأغاني)-على سبيل المثال لا الحصر-على غرار ما فعله المفكرون والفلاسفة العرب في مجال الفكر العربي، من أمثال محمد عابد الجابري (نحن والتراث)، طيب تيزيني (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط)، حسن حنفي (التراث والتجديد-موقفنا من التراث القديم)، حسن صعب (تحديث العقل العربي)، أنور عبد المالك (الفكر العربي في معركة النهضة)، لويس عوض (ثقافتنا في مفترق الطرق)، غالي شكري (التراث والثورة-مذكرات ثقافة تحتضر)...
ولعل أبرز ما أبدعه الأدب العربي في العصر الوسيط، فن المقامة التي تعتبر نصا مسرحيا بامتياز، ذي خصوصيات فنية درامية أصيلة. فهي فن سردي تصاغ فيه الحكاية بضمير المتكلم، وتتضمن مشهد/مشاهد مستوحاة من صميم الواقع المعيش؛ وتعتمد على الحوار (عيسى بن هشام- والشخصية الرئيسة الذي ابتدعها بديع الزمان الهمذاني: أبو الفتح الإسكندري). وحين تجتمع "الحكاية" و"التشخيص" و"الحوار" فذلك من مقومات "النص المسرحي". «وقد ذهب عبد الحميد يونس إلى القول إنه قد "جرت العادة عند مؤرخي الأدب العربي أن يتصوروا أن المقامة من الأنواع القصصية، قد يسردها قصَاص، وقد يدونها أديب ليتذوقها جمهور القراء. والواقع أن المقامة في أصلها أدب تمثيلي، وأنها من القيام في دار الندوة إبان العصر الجاهلي...كانت تمثيلا متواصلا، يقوم به ممثل فرد. وهو ما ذهب إليه كذلك علي الراعي الذي أشار إلى أن "المقامة المضيرية" للهمذاني ذات بناء درامي، فقام بتقسيم الحوار بين أبي الفتح والتاجر، وأكد كذلك على البناء الدرامي المحكم في "المقامة البغدادية" لأبي محمد القاسم بن على الحريري البصري، الذي يتنكر فيها "أبو زيد السروجي" في هيئة أمرأة عجوز يتبعها أطفال جياع».(12) وواضح أن ما أوهم الكثير من المستشرقين ومن حذا حذوهم من النقاد العرب بتصنيف "فن المقامة" في خانة الفن القصصي أخذهم بظاهرها المتمثل في طابعها السردي الإنشائي المنمق والمعتمد على المحسنات البلاغية. وخلافا لكل هؤلاء، وفي مقدمتهم المستشرق "هوروفيتس"-Horovitz يؤكد الباحث "شموئيل موريه": «بأن "المقامة" نوع أدبي عربي عريق ذو جذور هللينية فقط بقدرما هو مدين لـ"الحكاية". وقد ألفت "المقامة" بغرض الإلقاء التمثيلي، واستخدمت أسلوب الخطابة الرنَانة بما فيه من مخزون هائل من البلاغة الرفيعة الرائعة المنمَقة والتحوير البليغ للعبارة. وقد منحت هذه السمات المقامة صفة الجدية التي لاحظها المؤلفون المسلمون، فأعجبوا بها وقدَروها في الأدب العربي».(13) ولما كانت "المقامة فن جماعي يقتضي راو ومستمعين، ويرتبط بالوجدان الجمعي «فهو بحق رائد للرواية والقصة والتمثيل أيضا».(14) ونورد هنا –كنموذج- مشهدا من حوار بين أبي الفتح الأسكندري-بطل مقامات الهمذاني كلها- وبين التاجر وبين الصبيان من "المقامة المضيرية من مقامات بديع الزمان الهمذاني:
«عيسى بن هشام: كنت بالبصرة ومعي أبو الفتح الإسكندري. وحضرنا دعوة تاجر، فقدمت إلينا مضيرة،
غير أن أبا الفتح تنحى عن الخوان وهو يلعن المضيرة وصاحبها، ويمقتها وآكليها، ويثلبها
وطابخيها
الحضور: (ظانين أنه يمزح فإذا الأمر بالضد) ماذا عن أمرها؟
أبو الفتح: قصتي معها أطول من مصيبتي فيها. ولو حدثتكم بها لم آمن المقت، وإضاعة الوقت
الحضور: هات
أبو الفتح: دعاني بعض التجار إلى مضيرة وأنا ببغداد ولزمني ملازمة الغريم، والكلب لأصحاب
الرقيم، إلى أن أجبته وقمنا فجعل طول الطريق يثني على زوجته، ويصف حذقها في
صنعتها، وتألقها في طبخها. ويقول يا مولاي لو رأيتها والخرقة في وسطها، وهي تدور في
الدور من التنور إلى القدور، ومن القدور إلى التنور، تنفث بفيها النار، وتدق بيديها الأبزار.
ولو رأيت الدخان وقد غير في ذلك الوجه الجميل، وأثر في ذلك الخد الصقيل، لرأيت منظرا
تحار فيه العيون، وأنا أعشقها لأنها تعشقني. وصدعني بصفات زوجته حتى انتهينا إلى محلته
التــاجر: يا مولاي ترى هذه المحلة، هي أشرف محال بغداد يتنافس الأخيار في نزولها، ويتغاير
الكبار في حلولها، ثم لا يسكنها غير التجار. وداري في السطة من قلادتها. كم تقدر يا
مولاي أنفق على كل دار منها؟ قله تخمينا إن لم تعرفه يقينا
أبو الفتح: الكثير
التــــاجر: يا سبحان الله، ما أكبر هذا الغلط. تقول الكثير فقط (وتنفس الصعداء) سبحان من يعلم
الأشياء (أمام باب داره) هذه داري، كم تقدر يا مولاي أنفقت على هذه الطاقة؟ أنفقت والله
عليها فوق الطاقة. وانظر إلى حذق النجار في صنعة هذا الباب. هو ساج من قطعة واحدة.
إذا حرك أن، وإذا نقر طن (داخل الدار وقد حان وقت الظهيرة) يا غلام، الطست والماء
أبو الفتح: الله أكبر، ربما قرب الفرج وسهل المخرج (يتقدم الغلام)
التــاجر: (مخاطبا أبا الفتح) ترى هذا الغلام. إنه رومي الأصل عراقي النشء (مخاطبا الغلام) تقدم يا
غلام واحسر على رأسك، وشمر عن ساقك، وانض عن ذراعك وافتر عن أسنانك، وأقبل
وأدبر. ضع الطست، وهات الإبريق، وأرسل الماء.(ينادي الغلام الذي أطال المكث) يا
غلام الخوان فقد طال الزمان، والقصاع فقد طال المصاع، والطعام فقد كثر الكلام (الغلام
يأتي بالخوان) عمر الله بغداد، فما أجود متاعها (مخاطبا أبا الفتح) تأمل بالله هذا الخوان،
وانظر إلى عرض متنه، وخفة وزنه، وصلابة عوده، وحسن شكله
أبو الفتح: هذا الشكل، فمتى الأكل؟
التـــــاجر: الآن (مناديا الغلام) يا غلام الطعام
أبو الفتح: (بعد أن جاشت نفسي) هذا خطب يطم، وأمر لا يتم (فقمت)
التـاجر: أين تريد؟
أبوالفتح: حاجة أقضيها
التـاجر: يا مولاي تريد كنيفا يزرى بربيعي الأمير، وخريفي الوزير وقد جصص أعلاه وصهرج أسفله
وسطح سقفه، وفرشت بالمرمر أرضه، يتمنى الضيف أن يأكل فيه
أبو الفتح: كل أنت من هذا الجراب، لم يكن الكنيف في الحساب (يخرج أبو الفتح نحو الباب، ويسرع في
الذهاب وجعل يعدو)
التاجر: (يتبع أبا الفتح ويصيح) يا أبا الفتح، المضيرة (وظن الصبيان أن المضيرة لقب لأبي الفتح،
فصاحوا صياحه، فرميت أحدهم بحجر من فرط الضجر، فلقي رجل الحجر بعمامته فغاص في
هامته، فأخذت من النعال بما قدم وحدث، ومن الصفع بما طاب وخبث، وحشرت إلى الحبس.
فأقمت عامين في ذلك النحس. فنذرت أن لا آكل مضيرة ما عشت . فهل أنا في ذا يا آل همذان
ظالم؟».(15)
ولعل ما يدعونا إلى اعتبار المقامة نصا مسرحيا بالمفهوم الحديث، كون مخرج شهير من مستوى الطيب الصديقي استلهم منها مسرحيته الشهيرة "مقامات بديع الزمان الهمذاني" التي نالت إعجاب الجمهور في المغرب وفي البلدان العربية، أثارت اهتمام النقاد العرب والأجانب على السواء. فقد عرضت في مهرجان دمشق الرابع للفنون المسرحية سنة 1972، ومهرجان الحمامات المسرحي بتونس عام 1968، ومهرجان أفينيون سنة 1973، وعرضت أيضا من قبل بباريس عام 1964... وهي المسرحية التي كانت من بين الأسباب المباشرة في موجة التأصيل التي سادت في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين؛ والتي تركزت بالأساس على إعادة قراءة الحكايات الشعبية قراءة مغايرة، بعد أن تبين للكثير من الباحثين العرب أن الشخصيات المسرحية في إبداعات الكثير من الكتاب الغربيين تشبه إلى حد كبير «الشخصيات مفردة الصفات، كما هو الشأن بالنسبة للكاتب الأنجليزي "بن جونسون" (1573-1637) الذي جاء بعد بديع الزمان الهمذاني بخمسة قرون كاملة، "المرأة الصامتة" ,"إجازة صانع الأحذية"، "لكل إنسان مزاجه"، "سيجانوس"، "كاتلين"، الراعي الحذين"، و"قصة روبن هود" وغيرها»(16)
وبناء عليه، فما الذي يمنعنا من اعتبار فن المقامة أول نص حكائي درامي في الأدب العربي؟.
إننا نملك مشروعية طرح هذا التساؤل للإعتبارات التالية:
أ-«أن الأسلوب الذي صيغت به المقامة يتسم بالإيجاز والنزوع نحو خطابية الأسلوب، واستخدام النثر المسجوع-rhymed prose والتورية-pun، والجناس».(17)
بـ- حصول تطور في الأسلوب الموظف في "المقامة" يتبدى في «استخدام حوار ملحون لا يلتزم بقواعد اللغة العربية نحوها وصرفها».(18)
جـ- «"أن المقامة المختصرة في الخمسين مرة" (بفتح الراء من دون تضعيف، والمراد هو خمسون امرأة) التي أنشأها "محمد بن مولاهم الخياليُ" في القرن الرابع عشر الميلادي. وثمة إشارات غامضة إلى أن هذه المقامة «قد مثلت وعرضت أمام العامة علانية، ولكن يبدو أن "المقامة الهبالية" التي كتبت في لغة ملحونة، كانت قد عرضها "ابن سودان" في الأماكن العامة والميادين أمام جمهور التف متحلقا حوله كجزء من "مسخرته"-buffoonery».(19)
د- إذا كان المعلوم عن المقامات أنها كتبت في الأصل لتروى وتقرأ جهريا في المجالس أكثر مما تروى؛ فإن هذا الأداء الشفوي كان يستحضر العنصر التمثيلي المتمثل في الإيماءات والتعبير الجسدي اللذين يستعملها الراوي رغبة منه في الإثارة والتشويق. وهي الطريقة نفسها التي يعتمدها الحكواتي العربي. وفي هذه الحالة، فالأمر يتعلق بـ "خروج في الخيال"، بمعنى "إخراج مسرحي". وإذا أخذنا في الاعتبار آراء شخصيات مسرحية بارزة من أمثال «ف. ل. نيميدوفتش، ودانتشنكو، وماكس رينهاردت القائلة بأن وجود الممثل ووجود المتفرج يعني وجود الفرجة، أي وجود العرض، وبالتالي وجود المسرح»؛(20) فإن المقامة تعتبر نصا دراميا يتضمن شروط العرض المسرحي. بل هناك مقامات كتبت خصيصا من أجل العرض، ويتعلق الأمر بـ« "المقامة المختصرة في الخمسين مرة" التي خطها يراع ممثل "خيالي" محترف صرَح أنه رمى من إنشائها إلى أن تكون "خلفا بعدي عند أصحابي"، كي يترحم علي "من يأتي من بعدي؛ مما يفهم منه بأنه دوَنها بالرغم من أنها كتبت بالعامية، فالتمثيليات العامية لم تكن تدوَن احتراما لأسلوب القرآن الفصيح الذي كانت تكتب فيه العلوم الدينية والعلوم المفيدة للمسلمين كالحساب والطب، ولم يكن لهذا المؤلف أولاد يترحمون عليه بعد وفاته، فكتب هذه المسرحية لتبقى له ذكرا».(21)
المصادر والمراجع:
.(1) شموئيل موريه،المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط، ترجمة عمرو زكرياء عبد الله،منشورات
الجمل-بغداد،ط1-2014.
(2)محمد عزيزة:الإسلام والمسرح 1971،عمر الدسوقي:المسرحية نشأتها وأصولها،القاهرة-1957،أحمد الشايب:
أصول النقد الأدبي، القاهرة-1946،مصطفى الشكعة:من فنون الأدب العربي،القاهرة1957.
(3) تمارا الأكسنروفنا بوتينتيسيفا،الف عام وعام من المسرح العربي،ترجمة توفيق المؤذن،دار الفارابي-بيروت،ط2-
1990،ً60-61.
(4) شموئيل موريه،المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط،مرجع سابق،ص13.
(5) علي الراعي، المسرح في الوطن العربي،سلسلة عالم المعرفة-248(الطبعة الثانية)1999،ص33.
(6) شيموئيل موريه، المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط، مرجع سابق،ص 248.
(7) المرجع السابق،ص250
(8) على الراعي،المسرح في الوطن العربي، مرجع سابق، ص43.
(9) محمد كمال الدين،العرب والمسرح،سلسلة الهلال-القاهرة، العدد293-1975،ص9
(10) تمارا ألكسندروفنا،مرجع سابق،ص6.
(11) كما يراها المستشرق السوفياتي ن. إ. كونراد: تمارا،ص7.
(12) شموئيل موريه،المسرح الحي والأدب الدرامي في العلم العربي الوسيط،مرجع سابق، ص207. (13) المرجع السابق،ص201.
(14) محمد كمال الدين،العرب والمسرح،مرجع سابق،ص111.
(15)مقامات بديع الزمان الهمذاني(المقامة المضيرية)، أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى، قدم لها وشرح غوامضها الإمام العلامة الشيخ محمد عبده،دار الكتب العلمية-بيروت،ط2-2011،ص123-136.
(16) محمد كمال الدين،المسرح والعرب،مرجع سابق، كتاب الهلال ،ص113.
(17) شيموئيل موريه،المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط،مرجع سابق،ص211.
(18) نفسه،ص213-214.
(19) نفسه،ص213-214.
(20) تمارا ألكسندروفانا بوتينتيسيفا،ألف عام وعام على المسرح العربي،مرجع سابق،ص63.
(21) شيموئيل موريه،المسرح الحي والأدب الدرامي في العالم العربي الوسيط،مرجع سابق، ص214-
جريدة مسرحنا - العدد 403 - 20 أبريل 2015