قراءة في المؤلف النقدي: "المسرح الفردي في الوطن العربي"
للناقد والإعلامي لناقد والإعلامي الطاهر الطويل
الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم- باحث وناقد مسرحي
"المسرح الفردي في الوطن العربي- عبد الحق الزروالي نموذجا" مؤلف نقدي صادر عن الهيئة العربية للمسرح بالشارقة/دولة الإمارات العربية المتحدة في هذه السنة (2015). محتويات الكتاب تتألف من مدخل وثلاثة فصول: هوية المسرح الفردي، تجربة عبد الحق الزروالي، قراءة في مسرحية "رحلة العطش.
المدخل: في المدخل ينطلق الناقد والإعلامي الطاهر الطويل في قراءة الشكل المسرحي الذي اختار أن يصطلح عليه "المسرح الفردي" من بين تسميات أخرى "مسرح الممثل الواحد"،"المونودراما، أوالمسرحية وحيدة الممثل متعددة الأدوار. إن الأمر هنا يتعلق بإشكالية في مدلول كل من التسميات الأربع. فإذا اتفقنا على أنها تحيل على الشكل المسرحي الذي يعتمد الممثل الواحد الذي يظهر وحيدا على مدى العرض يسرد/يلعب الحدث عن طريق الحوار؛ فإن العمل المسرحي أيا كان شكله أواتجاهه ذو طبيعة جماعية تتمثل في مستوى أول في المؤلف والمخرج والممثل والمتفرج على أساس أن الفرجة المسرحية لا تكتمل إلا بوجود مشاهدين. وتتمثل في مستوى ثان في الطاقم التقني والفني المسئول عن سينوغرافيا العرض التي بدونها لا يمكن لأي عرض مسرحي كان أن يتحقق.
لا شك أن الطاهر الطويل ووجه بالإشكالية التي يطرحها تقاطع المصطلحات. فقد أشار في مدخل الكتاب إلى إشكالية التسمية بقوله: «تلك جملة إشكالات لا تنفك تثار بصدد "المسرح الفردي"، فتجعله نقطة تقاطع لردود فعل متباينة، تبدأ من التسمية نفسها».([1]) وسوف يتخذ من تجربة الممثل عبد الحق الزروالي مدخلا للإجابة عن مدلول صفة "الفردية" المقترنة بالممثل من خلال أسئلة أخرى: «فعلى أي شيء يمكن أن تحيل، أعلى الممثل الشخص (الفرد)؟ وفي هذه الحالة، نستطيع إدماج صفة الفردية، الملتصقة بالمسرح والمقصود بها الممثل، في إطار ما يسمى، "إطلاق الكل وإرادة الجزء"؛ فنقول بناء على ذلك: "المسرح الفردي" ونعني به : "مسرح الممثل الفرد (الواحد)، أو أن تلك الصفة تحيل على الشخصية الواحدة في المسرحية؟ أم على رؤية فكرية فنية محتمة تحكم "المسرح الفردي" برمته، هذه الرؤية التي لا نعدم أن نجد لها دوافعها الإبداعية والنفسية والاجتماعية وغيرها؟».([2]) هذا التقلب الاصطلاحي في التسمية لا يمنع الكاتب من الإقرار أن مصطلح "المسرح الفردي" فرض ذاته في المعجم النقدي المتداول في الخطاب النقدي المغربي والعربي،«وهي تسمية مستعملة ورائجة ومغربيا وعربيا».([3])
وفي مقابل مصطلح "المسرح الفردي" ينهض مصطلحان آخران: "المونودرما" أو "مسرح الممثل الواحد"، وكلاهما يتطابقان في المعنى عينه في تصور الكاتب؛ غير أن المونودراما تتسع لتتضمن "المونولوج المسرحي-Monologue dramatique ، وهو ما يسمح بالاستعانة بممثلين آخرين يظهرون على الخشبة أمام الجمهور شريطة أن يكون دورهم ذا صفة عضوية بالممثل الواحد، ودورهم لا يتجاوز حدود "الشخصيات- الحالات" التي تحيل في كل الأحوال على الشخصية الرئيسة. غير أن السائد في المونودراما أن يعتلي الخشبة ممثل واحد فقط، ويقوم بأكثر من دور وفق ما تقتضيه طبيعة الحبكة الدرامية وتنامي أحداثها، «وفي هذه الحالة سنكون أمام ما يصطلح ب "Monopolylogue "، وهي التمثيلية وحيدة الممثل متعددة الأدوار».([4])
الفصل الأول: هوية "المسرح الفردي" يتساءل الكاتب في هذا الفصل عن منابع المسرح الفردي، وعن جذوره إن كانت له شجرة نسب. وإذا كان وليد التجارب المسرحية الحديثة، فما هي الظروف التي أعانت على ظهور هذا الشكل المسرحي؟. آراء كثيرة تذهب إلى التأكيد أن الجذور تحيل على الشاعر اليوناني "ثسيبس"- Thespis الذي ظهر القرن السادس قبل الميلاد. «ففي سنة 550 ق.م – 534 ق.م أدخل ثسبيس شخصية الممثل الواحد، حيث أسند الدور الأول الأساسي لرئيس الجوقة- Coryphee، وغالبا ما كان هو الشاعر نفسه مؤلف المسرحية، فيما بقى للجوقة مهمة الإنشاد والتعليق وترديد بعض الحوارات»؛([5]) لتتطور التجربة من فضاء الجوقة المألوفة في العرض المسرحي الجماعي، إلى فضاء التمثيلي الفردي الذي اتخذ شكله النهائي في الممثل الواحد. ولعل ما أكسب هذه التجربة مكانتها في المسرح اليوناني أن الممثل يكون بالضرورة شخصية محورية يلتقي فيها الحدث والحوار، مما يجعلها منها جوهر العرض، محط إثارة وتشويق لأن المشاهد في مسرحية الممثل الواحد ينتظر ويتوقع أكثر مما ينتظره ويتوقعه من عرض متعدد الممثلين، وهو ما يقتضي قدرة في الأداء، وبراعة في التشخيص، وموهبة في التبليغ.( الكتاب عبارة اجتهاد معرفي ومنهجي سلك فيه الكاتب منهج صياغة أسئلة المسرح الفردي)
وبالنسبة لجذور هذا الشكل المسرحي في التراث الدرامي العربي، فضل الكاتب استعمال عبارة "الأشكال التمثيلية" تمييزا لها عن الأشكال المسرحية أو ما قبل المسرحية، على اعتبار «أن التمثيل سابق على المسرح».([6]) فقد عرفت في البلاد العربية قبل الإسلام أشكال تمثيلية توظف لأغراض ترفيهية أو توجيهية، كـ "الراوي" أو"القصاص" و"السامر" و"المرتجل" و"القوال" و"المداح" و"المقلداتي"... ويورد الكاتب «تميم الداري كأول راو في الإسلام، حيث روى قصة الجساسة والدجال، كما كان أول من قص بمصر هو سليمان بن عتر التجبي عام 38هـ».([7]) كما استعرض تطور هذا الشكل في العصرين الأموي والعباسي على الخصوص حيث كثر الحكواتيون «الذين تميزوا بمواهبهم العظيمة في التقليد... وقد كانوا يلجؤون إلى المسليات لكي يزيلوا السأم عن السامعين لقصصهم الآسرة؛ مستعينين في ذلك بالإشارات وحركات الجسم، حتى إن الأمر يصل أحيانا إلى مستوى التمثيل الصامت(البانتوميم). ولما كان هؤلاء الحكواتيون لا يجدون وقتا كافيا لتغيير ملابسهم، فقد اقتصروا على تغيير أغطية الرأس أثناء تمثيلهم للشخصيات والحرف المختلفة».([8]) كما أورد الكاتب مثال «رجل صوفي في عهد الخليفة العباسي المهدي يسمى عبد الرحمن بن بشر يخرج كل اثنين وخميس إلى تل بضواحي بغداد فيتبعه جمهور من الناس يتحلقون حوله؛ حيث ينصب نفسه قاضيا منفردا يحاكم الخلفاء المسلمين الأوائل، حتى إذا وصل إلى معاصريه بني العباس لاذ بالصمت؛ غير أن إصرار الحاضرين على مواصلة المحاكمة، وتقديمهم رجل على أنه أبو العباس السفاح، يخرج عبد الرحمن بن بشر عن صمته قائلا: بلغ أمرنا إلى بني العباس، أي بلغنا في التمثيل إلى بني العباس، ثم يعلن حكمه النهائي بلا تردد: "ارفعوا حساب هؤلاء جملة، واقذفوا بهم في النار جميعا، وبذلك تنتهي المحاكمة المشخصة، وينصرف كل واحد إلى شأنه».([9])ومن عصر الانحطاط والبدايات الأولى لعصر النهضة يورد الكاتب مثلا لشكل مسرحي تمثيلي يتمثل في "المداح". فقد كان المداحون متخصصون في «رواية قصص الأنبياء ومناقب الأولياء وكرامات الصالحين، بهدف الوعظ والاعتبار. أما أسلوبهم فيتلخص في طريقة في الأداء ينفردون بها أقرب ما تكون إلى الإنشاد والترتيل، ويعتمدون فيها على براعة التوقيع وحسن التنغيم، في تناغم متواكب مع نقرات الدف البارعة مع أداء حركي وتمثيلي ينسجم مع القصص التي يتغنون بها، يدل على حاسة فنية دقيقة، وهم يستعينون غالبا بالأزجال العامية».([10])وعن الأشكال التمثيلية في المغرب، فقد اشتهرت "الحلقة" التي ترتبط زمنيا بالأسواق الشعبية والمواسم والأعياد الدينية، ومكانيا بالساحات الكبرى والأبواب التاريخية «كباب عجيسة بفاس وباب منصور العلج بمكناس وباب جامع الفنا بمراكش»،([11]) وبطلها هو "الحلايقي" سيد الفرجات الفردية التي يقدمها للمتجمهرين في حلقة دائرية، والتي تجمع بين المتعة المتحققة بالاستماع والمشاهدة معا «تتحول الفرجة (أو "فراجة" بالعامية المغربية) إلى عرض شامل ينطلق من حكي مشوق، ليطال فنونا مختلفة من رقص وغناء وتفكه، ويتوسل الحلايقي في ذلك ببراعته في التقليد والأداء، إضافة إلى استعانته ببعض الملابس والإكسسوارات الملائمة، ويعتمد على مشاركة الجمهور إياه في الفرجة».([12]) ولتأكيد عراقة هذا الشكل التمثيلي في الثقافة الشعبية المغربية، يورد الكاتب مثال «الشخصية التاريخية/الشعبية سيدي عبد الرحمن المجذوب الذي قضى حياته جوالا يحكي ويقص، وله ديوان زجل مكتوب يحفظه الرواة، ويمكن أن ندرج في نفس الإطار رجال الكلام الملحون إذ كان الواحد منهم يحكي قصة محبوكة ومنظومة بواسطة تعابير زجلية بليغة، تتخلل ذلك حركات جسدية مناسبة، وتشارك جماعة الحاضرين (الشاعر) في الإنشاد وترديد اللازمة من حين لحين».([13]) ويستخلص الكاتب أن الشكل التمثيلي الفردي عريق في الموروث الشعبي- الشفاهي العربي والمغربي، ومجذر في الوجدان الشعبي، ويعكس أصالته في البيئة العربية
بخصوص المنحى التأصيلي الذي انطلق في النصف الثاني من القرن العشرين استعرض الكاتب مجموع التجارب التأصيلية التي طفقت مع توفيق الحكيم ويوسف إدريس ومحمود دياب وعلي الراعي في مصر وسعد الله ونوس في سوريا، وعز الدين في تونس، وروجيه عساف في لبنان ... وكلها سعت في اتجاه التأسيس لمسرح محلي أصيل قوامه الثنائية: حكاية تراثية وممثل حاك. وفي المغرب اقترنت التجربة بالطيب الصديقي «الذي كان له قصب السبق في النهل من التراث الشعبي المغربي بحصافة فنية وبعد نظر ناضج، بغية تأسيس فرجة مسرحية أصيلة ومنسجمة مع أجواء الذاكرة الشعبية وروح الواقع المعيش. ومن أهم أعماله الرائدة: سلطان الطلبة، سيدي عبد الرحمن المجذوب، مقامات بديع الومان الهمذاني وكتاب الإمتاع والمؤانسة».([14]) وهي محاولات أثبتت أن تجربة المسرح الفردي وجدت نفسها منسجمة مع المادة التراثية الشعبية، ومتناغمة مع الممثل الذي يعتمد الارتجال وإشراك المتفرجين في اللعبة، وهو ما يقتضي بالضرورة الاستغناء عن صرامة القواعد الفنية المتداولة، ونبذ الشكل الإيطالي للمسرح؛ من دون القطع طبعا مع الكثير من تقنيات المسرح الغربي الحداثي مثل تكسير الجدار الرابع، والارتجال، والمسرح داخل المسرح وتكسير الايهام؛( تعتمد منهجية الكاتب في صياغة أسئلة، ومن ثمة يسعى للإجابة عنها).
من أهم الأسئلة التي صاغها الكاتب سؤال يتعلق بتجربة المسرح الفردي في المغرب. أيتعلق الأمر بحالات استثنائية تنحصر في مسألة عدد الممثلين؟، أم تتجاوز ذلك إلى مستوى يتعلق بخصوصية الشكل الفني لظاهرة المسرح الفردي ضمن السياق العام؟.
في محاولة من الكاتب لسبر أغوار هذه التجربة ورصد مظاهر تميزها، يستحضر الكاتب سنة 1976 تاريخ أول مسرحية لعبد الحق الزروالي "الوجه والمرآة" كميلاد رسمي للمسرح الفردي في المغرب، من دون إغفال التجارب المتراكمة من قبل ومن بعد في هذا الصدد. ولعل ما أكسب تجربة عبد الحق الزروالي توهجها الإبداعي، وكرس خصوصيتها الفنية التراكم الإبداعي، والحضور المنتظم والفاعل والمؤثر في المشهد المسرحي المغربي والعربي على السواء: (الوجه والمرآة1976، صالح ومصلوح 1979 ، ضريبة العشق1980، شجرة الحي(مسرح الطفل)1980، جنائزية الأعراس1982، رحلة العطش1984، عكاز الطريق1985، سرحان المنسي1986، برج النور1986). فمسرحية "برج النور" على سبيل المثال عرضت 82 مرة، 11 مرة في مدينة فاس وحدها، وقدمت في مهرجان المهرجان العربي بدمشق، والمهرجان الثالث للمسرح العربي ببغداد،، وفي مهرجان "كيري" للمسرح الدولي بطورينو بإيطاليا سنة 1989. هذا التوهج الإبداعي والتميز الفني هو ما حدا بعبد الحق الزروالي« إلى اقتراح مشروع مهرجان عربي للمسرح الفردي».([15])
ما البواعث والأسباب التي أدت إلى ظهور هذا "الاتجاه" المسرحي في المغرب؟ وما هو سياقه السوسيوثقافي العام؟. في اعتقاد المؤلف اقترنت معظم الأعمال المسرحية الفردية في المغرب بظاهرة مسرح الهواة انطلاقا من ستينيات القرن الماضي.«وقد شهدت مرحلة السبعينيات عدة تحولات عميقة على المستوى الإبداعي وضمنه المسرحي، وذلك نتيجة عوامل سياسية، لعل أبرزها النكسة العربية في حزيران1967. هذه النكسة التي كان لها انعكاس قوي في نفسية العرب من حيث الشعور بالهزيمة ومرارتها»([16])كان من تداعياتها «العودة إلى الذات بمفهومها القومي الشامل، وقد طال ذلك التأثير المسرح المغربي وبخاصة الهاوي؛ حيث أمسى يقوم في موضوعاته على المضامين القومية والإنسانية والشعبية، ويمتح من التراث والأسطورة، مستعيرا منهما أحداثا وشخوصا ومواقف، وموظفا إياها في صوغ رؤية درامية انتقادية. كما ظهرا أسئلة جديدة يحكمها وعي نظري متطور، وهي تروم تأسيس كتابة إبداعية مغايرة، وتعانق أفق التجريب المسرحي في العالم (عبر الانفتاح على اتجاهاته ومذاهبه)، وتطمح إلى خلق فرجة عربية صميمة وتثوير الفعل المسرحي، وترسيخ التواصل مع الجماهير بشكل ايجابي وفاعل».([17])في هذا الإطار العام، ترعرعت تجربة المسرح الفردي في المغرب، محملة بالأسئلة الإشكالية للمسرح العربي، ومتشبعة بمساعي التأسيس لمسرح عربي أصيل. وهو ما يؤكد إسهام المسرح الفردي في موجة الدعوات التنظيرية التي سادت العالم العربي اعتبارا من سبعينيات القرن الماضي انطلاقا من خصوصيته المتمثلة في بناء النص الدرامي، والمقترح السينوغرافي، والمنجز التشخيصي. وهي خصوصية تتماهى والكتابة الدرامية العربية في عمومها فيما يتعلق بالاستلهام من الموروث الشعبي، وتبني الأشكال الفرجوية الأصيلة كقوالب مسرحية.
وبخصوص نزعة الفردانية، يشير الطاهر الطويل إلى أن وعي مسرحيين شباب بضرورة التحرر من الأشكال المسرحية التي كانت تمثل ما يسمى بــ "الطليعة الجمالية" التي سادت في المسرح الرسمي التي كرسته الأطر الفرنسية المشرفة إبانئذ على المسرح المغربي باتت «جامدة وحائرة ، تعتمد على الإبهار أكثر مما تعتمد على الإبداع، تضحك الجمهور أكثر مما تحاوره، وتنظم الفرجة السلبية أكثر مما "تصنع" المسرح المطلوب».([18])كما يشير المؤلف إلى باعثين اثنين أساسيين ساهما –من بين بواعث أخرى- في انتشار ظاهرة المسرح الفردي في سبعينيات القرن الماضي لدى الهواة على الخصوص
أ-«الوضعية الإدارية والتنظيمية والمادية للمسرح المغربي، وهي متمثلة في الحالة المزرية التي كانت تعيشها الفرق المسرحية الهاوية على مستوى الدعم المادي والعناية المعنوية؛ وكذا حالة الحصار وتضييق الخناق، التي كانت تشتكي منها؛ إضافة إلى مشاكلها الذاتية، وارتباط فاعليتها بالمهرجانات المسرحية الموسمية، وعدم قدرتها-في كثير من الأحيان- على تحقيق ديمومة النشاط وتطويره. مما كان يؤدي إلى فتور همم بعض أعضائها-أي الفرق- أو تخليهم عن مجال المسرح نهائيا».([19])
ب-« أنتشار للروح الفردية التي طالت مجالات السياسة والفكر والاجتماع والفن؛ فكان المسرح المسرح الفردي –حسب هذا الرأي- انعكاسا لهذه الرؤية "الفردانية" وتعبيرا عنها».([20])(النقشة للصديقي1969- شريشماتوري لنبيل لحلو1973- الزغننة لمحمد تيمد1973- الناس والحجارة لعبد الكريم برشيد1978- بشار الخير لمحمد الكغاط1979- الحرباء لحوري الحسين1986).
في خاتمة هذا الفصل خرج الطاهر الطويل بخلاصة مؤداها:
أ- أن الممثل الواحد الذي يمثل القاسم المشترك في تجربة المسرح الفردي في المغرب إنما يترجم البعد الإختزالي للفعل المسرحي لاعتبارات اضطرارية؛ وهو ما يعني «أن بعض هذه المسرحيات لم تستطع أن تحمل تنظيراتها في ذاتها، ولم تتجاوز الاتجاه السائد والطابع الموروث وحدود الاقتباس والنسخ، ولم تأت بخصوصيات تميزها عما هو رائج ومستهلك على مستويي الشكل والمضمون».([21])
بـ- انعدام التراكم الضروري في الكتابة الدرامية في المسرح الفردي المغربي، وهي حالة مردها في تصور الكاتب إلى القناعة السائدة لدى المسرحيين المغاربة أن المسرح باعتباره فعلا جماعيا فالضرورة تقتضي بالنتيجة أداء جماعيا.
جـ- أن الكتابة في مجال النصوص الدرامية ذات الممثل الواحد ما تزال في طور الاختبار، ولم تتمكن بعد من تقعيد خلفية معرفية ورسم معالم خصوصية فنية بالرغم من ارتقائها إلى مستوى اعتبارها ظاهرة ماضية في الإنتشار والذيوع.
الفصل الثاني: تجربة عبد الحق الزروالي الحديث عن تجربة هذا الفنان تقتضي من الوجهة المنهجية استعراض المؤثرات البيئية والنفسية والسلوكية التي أثرت في شخصيته وحددت مساره وأعانت على بلورة رؤيته الفنية للفعل المسرحي. وهو ما فعله الكاتب الطاهر الطويل حين خصص ما يربو على خمس صفحات للطفل عبد الحق الذي أدرك في وقت مبكر أن عليه إثبات الذات في وسط اجتماعي «مارس عليه نوعا من التسلط».([22]) في سنة 1963 اختاره المسرح كما صرح بذلك، سنة 1965 سيحظى بمباركة عائلته لممارسة المسرح، سنة1967 سيعيش تجربة حب مبكرة فاشلة، شخصها في مسرحية ناجحة "ماجدولين". وسيكون للفنان الصاعد موعد مع التاريخ سنة 1976، حين دخل في فسحة للتأمل خرج منها ليجد نفسه أمام مرآة يتأمل فيه ملامح وجهه، فكانت "الوجه والمرآة" التي كانت إيذانا بميلاد تجربة فنية متفردة في راهنية المشهد المسرحي المغربي. وبالرغم من موقفه من «موسمية العمل المسرحي في نطاق الهواة»([23]) فقد ظل وفيا في مساره الفني للتوجه العام لمسرح الهواة المنحاز جماهيريا من دون أن يمثل مبدأ "الإلتزام" الذي يعكس بالضرورة موقفا أيديولوجيا مضادا تشويشا على جمالية المتعة السمعية-البصرية في مسرح عبد الحق الزروالي. «لقد انبنت مسرحية "الوجه والمرآة" منذ بدايتها على تكسير الإيهام وخلخلة نمط المسرح التقليدي»[24]، مما يوحي بأن حبكة المسرحية ستسير في خط درامي تصاعدي يؤجج الحدث ويؤزم موقف الممثل الذي سيكون أمام شخصية مسرحية مركبة تعاني من العجز والشعور بالانهزام على المستوى النفسي، وتعاني من الاستغلال والاختناق: «يا ناس دعوا الخوف جانبا وتعالوا قبل أن يحل الطاعون، إنني أراه يزحف نحونا».([25])
لقد عكست هذه المسرحية أن مفهوم المسرح الفردي عند عبد الحق الزروالي يتأسس على رؤية فنية تعيد تشكيل الواقع تشكيلا تغريبيا من خلال كتابة درامية تستحضر شروط العرض، من خلال بناء مشاهد متداخلة ومركبة تستفز أفق انتظار المشاهد كخطوة نحو استدراجه إلى فعل مسرحي يحرره من حياده السلبي، على اعتبار أن «الممثل يمثل "مع" الجمهور وليس "لـ" الجمهور»،([26])من خلال مشاهد تختزل الجماعي في الفردي، يتحول فيها الممثل/الفرد إلى شخصية مسرحية بصيغة التعدد. وهو ما عبر عنه الكاتب بالقول«إن صفة الفردية المسندة إلى هذه المسرحية تعد نسبية، كما أنها لا تعني أحادية في الرؤية أو الموقف؛ بل إن أحد كتابنا ذهب إلى حد عدم اعتبار "الوجه والمرآة" مسرحية فردية، لكونها تقوم على التعدد في التشخيص، تشخيص الواقع متعدد الوجوه والصور والملامح».([27] )
د. عبد الرحمن بن إبراهيم
- الطاهر الطويل/ المسرح الفردي في الوطن العربي- مسرح عبد الحق الزروالي نموذجا، الهيئة العربية للمسرح-الشارقة، 2015، مدخل، ص2[1]
- - نفسه، ص3[2]
- - نفسه، ص3[3]
- - نفسه، ص6[4]
- - نفسه، ص9[5]
- -محمد الكغاط، بنية التأليف المسرحي بالمغرب من البداية إلى الثمانينات، دار الثقافة-الدار اتلبيضاء، ط1-1986، ص13[6]
- - الطاهر الطويل، المسرح الفردي في الوطن العربي- عبد الحق الزروالي نموذجا، مرجعه سابق، ص12[7]
- - نفسه، ص13[8]
- - نفسه، ص15[9]
- - نفسه، ص13[10]
- - حسن النيعي، أبحاث في المسرح المغربي، مطبعة صوت مكناس، ط1-1974، ص15[11]
- - الطاهر الطويل، المسرح الفردي في الوطن العربي- عبدالحق الزروالي نموذجا، مرجع سابق، ص14[12]
- - نفسه، ص14-15[13]
- - نفسه، ص22[14]
- -نفسه، ص25[15]
- - نفسه، ص26[16]
- - نفسه، ص26[17]
- - نفسه، ص27[18]
- -نفسه، ص27[19]
- -نفسه، ص27-28[20]
- - نفسه، ص34 نقلا عن عبد الحق الزروالي، عودة إلى موضوع المسرح الفردي، جريدة العلم 23فبراير1979،ص10[21]
- - نفسه، ص47[22]
- نفسه ص51[23]
- - نفسه، ص54[24]
- نفسه، ص55[25]
- - نفسه، ص67[26]
- نفسه، ص56، نقلا عن عبد الكريم برشيد، "الوجه والمرآة" بين التمثيل واللاتمثيل، العلم الثقافي، غشت1979، ص6[27]
العلم الثقافي - الخميس 29 من رمضان1436 الموفق 16 من يوليوز 2015