النقد المسرحي المغربي وإشكالية الجمهور

          د. عبد الرحمن بن إبراهيم

     يمثل الجمهور في المسرح المغربي والعربي على السواء واحدة من الإشكاليات الأكثر تعقيدا، وهي نابعة في الأصل من إشكالية المجتمع المغربي الحديث ذاته. ومن تجلياتها غياب دراسات متصلة بالجمهور، وغابت من ثمة الملامح المساعدة على تحديد طبيعة المتفرج المغربي. وهو ما يربك مساعي الناقد المسرحي المغربي إلى تحديد الاتجاهات العامة للجمهور، ومعرفة المطالب والاحتياجات الأساسية لدى الفرد.

إن افتقار المسرح المغربي والعربي إلى قاعدة جماهيرية عريضة ليس سوى انعكاس لصورة العزلة التي يعانيها الفرد في المجتمع. وهذا ما يبرر آراء بعض المسئولين التي تذهب إلى القول «بأن المسرح في المغرب ليس له جمهور. والذين يسجلون هذه الملاحظة، يستندون إلى حقيقة تقول بأن أي عرض مسرحي لا يمكن تقديمه أكثر من مرة أو مرتين متتاليتين في نفس المدينة. وهذا هو ما سميناه العرض المهرب. ويفسر أصحاب هذا الخطاب هذه الظاهرة بغياب التقاليد المسرحية في الثقافة والمجتمع المغربين، وبالتاريخ القصير للممارسة المسرحية في المغرب».(1)

هناك ثلاثة حقول تلعب دورا كبيرا في رسم الاتجاهات العامة لميولات الجمهور، ومعرفة تطلعاته ونوعية انتظاراته، وحجم طاقته وحيويته: التعليم – الإعلام – الفن. غير أن محدودية تأثير هذه الحقول في الأوساط الاجتماعية، ينتهي بها المطاف هي الأخرى إلى التخلف عن مواكبة مطالب الجمهور. وهكذا، فإن جميع الملاحظات تقود إلى تأكيد شرط ضروري لمعرفة طبيعة الجمهور هو دراسة  معرفة نوعية رغباته، وتحديد سقف احتياجاته، والاكتشاف المستمر لاتجاهاته من خلال استبيانات واستطلاعات للرأي العام المسرحي في أثناء التظاهرات المسرحية، وفي المؤسسات المدرسية والجامعية لامتلاك تصور دقيق وموضوعي استنادا إلى إحصائيات وأرقام. وهي العملية التي لم يسبق لأية مؤسسة رسمية أو أهلية في حدود علمنا أن قامت بها، وإن أنجزت فهي غير منشورة أو غير متاحة لعموم القراء والباحثين؛ مما يعني أن حديث البعض عن الجمهور لا يعدو أن يكون في واقع الأمر سوى فرضيات وتخمينات ليس إلا. وإذا علمنا مثلا أن الجهة الرسمية المشرفة على قطاع المسرح هي وزارة الشبيبة والرياضة كانت تخصص أكثر من ثلثي موازنتها السنوية -الهزيلة أصلا- لقطاع الرياضة، انكشف سر اعتبار الفنون عموما والمسرح على الخصوص مجرد تسلية وترف زائد على اللزوم، في والوقت الذي من المفترض أن يكون ممولا من طرف المجالس المنتخبة والجماعات الحضرية ومحتضنا من لدن الأحزاب السياسية والمؤسسات الثقافية والجامعات ودور الشباب ومنظمات العمل الجمعوي التطوعي. لقد تساءل الباحث حسن المنيعي بالقول:

«هل أمكن للمسرحيين المغاربة تحقيق تواصل فعلي مع الجمهور؟. وكان جوابه: لقد حاولت في دراسة سابقة أنا أعالج هذه القضية انطلاقا من عدة فرضيات، جعلتني أحدد هذا التواصل في علاقته بـ "صناعة الفرجة"، وقد وصلت إلى الاستنتاج التالي: وهو أن هذه الصناعة تخضع لنوعين من التلقي:

 - تلق خطى يستقطب جمهورا واسعا، ويدفعه إلى الاندماج الكلي في الأحداث التي يقوم عليها   العمل المسرحي نظرا لوضح بنياته اللغوية والركحية.

 - وتلق جدولي يهدف إلى صناعة فرجة مسرحية متفجرة تقوم على كتابة مؤسلبة تراعي ذوق جمهور عارف يعيد تأسيس النتاج ويمارس حريته على مستوى تلقيه.

ومع أنني قد أوليت اهتماما بالجمهور في هذه الدراسة وعلاقته الزمنية بالإنجاز المسرحي، فإني لم أقدم بيانات إحصائية عن حضوره للعروض ونسبية ارتفاع هذا الحضور أو انخفاضه، لأن منطق الدراسة كان مجرد قراءة تاريخية تدعمها المتابعة لمسرح أصبح منذ خطواته الأولى يعد ظاهرة حضارية في الثقافة المغربية، لكننا لا نملك وثائق عن جمهوره».(2)

وعلى الرغم من الإقرار بصعوبة الإحاطة باحتياجات جمهور معين على اعتبار أن هذه الاحتياجات تبقى مسألة نسبية، وأنها عرضة للتغيير والتفاوت من حين لآخر؛ فإن هذا لا يعفي الجهات المعنية من إنجاز دراسات استطلاعية ميدانية لضبط نبض الجمهور. والمؤهل للاضطلاع بهذه المهمة هي الجامعة المغربية وزارة الثقافة والجهات ذات الصلة. وإذا كان من المسلم به بأن أي مسرح مهما كان إشعاعه الفني لا يستطيع أن يلبي كل انتظارات جمهوره، وإذا كان الواقع المسرحي يؤكد من جهته أن المسرح هو الذي يضع شروطه على الجمهور وليس العكس، وأن هذا الأخير هو الذي يجب أن يرتقي إلى مستوى ما يعرض أمامه؛ فقد أثبتت تجارب المسرح في روسيا وإنجلترا وألمانيا وفرنسا وأميركا أن العلاقة بين المسرح والجمهور، تطورت بفضل البرامج المسرحية المعدة سلفا والمخطط لها ضمن أهداف فنية جمالية تمثل قواسم مشتركة لمجموعة من الأفراد، الذين توحدهم هواجس فكرية وفنية يستنهضون بها همم الجمهور، ويستنفرون مشاعره الجمالية. وواضح أن بلوغ مثل هذه الغاية لابد أن تكون مسبوقة بمخطط استراتيجي يبدأ من قراءة الواقع اعتبارا من خصوصيته الثقافية، ورسم معالم آفاقه المستقبلية، وانطلاقا من خصوصية الفرد الواحد، ومن طبيعة ونوعية حاجاته الجمالية في إطار مشروع ثقافي شامل.

إذا كانت وظيفة الخطاب المسرحي تتركز في الغايات الجمالية والفنية والفكرية؛ فإن وظيفة الفعل النقدي المسرحي تتجاوز حدود مجرد القراءة النقدية، إلى التأسيس لرأي عام ثقافي ونقدي من خلال قراءة نقدية تطبيقية على النص والعرض ذات أرضية معرفية محددة، وذات أفق تنظيري معين. فالفنان مهما كان تأثيره على الجمهور لا يستطيع أن يخلق جمهورا من دون وساطة الناقد، اعتبارا للعزلة القائمة بين الفنان والمثقف عموما، وبين الواقع الذي تكرسه سطوة الثقافة الرسمية وخياراتها القهرية. وفي ظل واقع بهذه المواصفات، من غير الممكن تصور إمكانية تبلور أي تأثير للنقد المسرحي على الجمهور، إلا إذا تم ذلك في إطار إستراتيجية ثقافية تعاقدية ينخرط فيها النقاد والمبدعون المسرحيون، والجهات الرسمية المعنية بالعمل الثقافي.

 إن الوظيفة المعرفية للخطاب النقدي المسرحي تتحدد بالأساس في:

أ-  استهداف النص الدرامي/العرض المسرحي استهدافا مباشرا في لحظة انفعال وتفاعل محدودة في الزمان.

    بـ- عدم استحضار أي اعتبار آخر حتى ولو كان الجمهور، لأن من شأن ذلك أن يعطل عملية اختراق النص/العرض، ويعرقل عملية تواصل الفعل النقدي والعرض المسرحي.

   جـ- أن الممارسة النقدية بحكم أنها ضرب من النشاط العقلي، تستمد طاقتها من فعل يتخذ قوة التحرر الفكري لدى الناقد. وهذا الفعل يتحول بفعل التداول إلى قوة تحرر فكرية في المجتمع. وبذلك يتحول الفعل النقدي المسرحي إلى خطاب معرفي استشرافي يتخذ من قراءة النص/العرض منطلقا للارتقاء به نحو أفق القراءات المحتملة والمتعددة.

 ولا يمكن لهذه الوظيفة أن تتحقق في ظل وضع ثقافي هش ومتذبذب، كما تشهد بذلك راهنية المسرح المغربي؛ وما يزال الوقت مبكرا للحديث عن واقع نقدي مسرحي مغربي ذي أفق معرفي محدد، وذي لغة نقدية مصطلحية مؤسسة على تصور مفهومي معين، ورؤية منهجية في القراءة النقدية للنص والعرض. كما أن تخلف الجهات الإدارية الرسمية عن تحمل مسئوليتها في دعم الفعل الثقافي في مخططاتها التنموية والمستقبلية، يجعل إمكانية النهوض بالعمل المسرحي عملية بالغة التعقيد.  

- هل نستطيع الحديث عن جماهيرية المسرح المغربي؟

   إن الفعل المسرحي المغربي التنويري (مسرح الهواة) حقق تراكما كميا ونوعيا معتبرا على مستوى الكتابتين الدرامية والسنوغرافية اعتبارا من ستينيات القرن الماضي، واستطاع بفضل ألقه الفني الفكري أن يخلق رأيا عاما مسرحيا فاعلا ومؤثرا في راهن الثقافة المغربية. وقد تجسدت تجلياته في عديد المقالات النقدية المسرحية وبحوث الإجازة في السنة الرابعة الجامعية، والرسائل والأطاريح الجامعية؛

            وبخصوص الزعم بنخبوية مسرح الهواة التي أفقدته جماهيريته، وجب التذكير «أنه مسرح يبتكر ذاته، لأنه يقوم على فعل التعلم من الغرب ومحاولة تجاوزه أو الانسلاخ عنه على الأقل. ولأنه يحترم جمهوره ويحدس مؤهلاته وحسن تلقيه، فإن إنجازاته هي في الغالب صناعة درامية متجددة ومتحولة، تهدف إلى إرساء وترسيخ تقاليد مسرحية ذات بعد جمالي وثقافي، الشيء الذي يجعلها (أي الإنجازات) تثير نقاشات جادة حول المسرح المغربي، كما أنها تحفز النقاد والدارسين إلى الاهتمام بمحتوياتها الفنية والفكرية نظرا لارتكازها على ممارسات الغرب وتجاربه، ولسعي صانعيها إلى الاستفادة من تراكمات التراث والتقاليد الشعبية بحثا عن فرجة جديدة تخول لهم إرضاء جمهور متذوق» (3) والوقائع تؤكد أن مسرح الهواة على الرغم من توجهه إلى النخبة المثقفة بحكم مفهومه للممارسة المسرحية الملتزمة والطليعية، فإنه استطاع أن يستقطب جمهورا عريضا من مختلف الشرائح الاجتماعية من أساتذة وباحثين وطلاب وتلاميذ وموظفين وعمال ومهنيين ومعطلين حتى. وكثيرا ما تضطر اللجنة التنظيمية في دورات المهرجان الوطني إلى اشتراط فضاءات قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من المتتبعين لفعالياته، حتى الجمعيات المقصية تحرص وتصر على الحضور. وهو ما يؤكد أن مسرح الهواة رغم محدودية الإمكانيات، والتضييق والتهميش المتعمدين في الكثير من الأحيان، استطاع أن يخلق رأي عام مسرحي مغربي، كما أن  تجذره في الساحة الثقافية المغربية ساعد على استقطاب منظرين وناقدين وباحثين ذوى تكوين جامعي رفيع.

المراجع:

  • عبد الواحد عوزري، المسرح المغربي –بنيات واتجاهات، دار توبقال للنشر- الدار البيضاء، ط1- 1998،  ص196.
  • حسن المنيعي، قراءة في مسارات المسرح المغربي/ مجلة المسرح المصرية، الأعداد 193-192، يناير حتى أكتوبر2004، ص94.
  • نفسه، ص94.

 

العلم الثقافي - الخميس 11 ربيع الثاني  1437 الموافق 21 من يناير 2016

Loading...